النبوة، والمعجزة، والإمامة

12 06 2022 631219 بطاقة تعريف:
الكاتب: آیه الله جوادی آملی
الملخص:
بسمه تعالی شأنه العزیز یصل إلی ذهننا في هذا المختصر توضیح رسالتین نافعتین؛ الأوّل: بیان معنی المعجزة وسرّ تلازمها مع صدق دعوی النبوة، والثاني: بیان معنی الإمامة وسرّ عدّها من أصول المذهب في مکتب التشیّع. القسم الأوّل: علاقة الرسالة، والنبوة، والولایة بعضها من بعض  إنّ رسالة کلّ نبيّ متعلقة بنبوّته وتتعلّق نبوّته بولایته؛ فجهة إیصال الإنسان الکامل إلی الله سبحانه إنّما هي ولایته، وجهة علاقته بالمجتمع البشريّ إنّما هي رسالته، والرابط بین هاتین الجهتین هي النبوة، کما أنّ اختلاف الرسالات مرهون لاختلاف النبوّات، وامتیاز النبوّات یتحقق في ضوء تفاضل الولایات. إنّ الکلام حول النبوة في مقام الثبوت إنّما هو بتبیین تجرّد الروح ومراتب العقل النظريّ والعمليّ منه، ونیل الإنسان الکامل لقداسة النفس، واتباع قوی الوهم والخیال قوی الفهم والشهود فیه الذي لم یسعه هذا الموجز. وإنّ الکلام حول النبوة في مقام الإثبات فهو لبعض الناس السالکین بالشهود العرفاني الحاصل لهم وهم قلیلون، الذین لو أقیم لهم دلیل من العقل أو من النقل کان عندهم بمنزلة تأیید المطلب الثابت عندهم لا بمرتبة إثبات أصل المطلب، غیر أنّ إثبات ذلك لعامة الناس لا یتحقّق إلّا بتوسّط تنصیص إلهيّ. فکلّما نصّ الإله علی نبوة نبيّ ما تثبت نبوته حینئذ، وهذا التنصیص إمّا بالقول وإمّا بالفعل ویتفق النصّ القوليّ مع النصّ الفعليّ عیناً في بعض الأحیان.  فالقسم الأوّل: ثبوت نبوة من ثبتت نبوته بقول نبيّ ثابت النبوة قبله فیما لو صرّح بتعیین شخص معیّن کونه نبیّاً؛ ففي هذا المورد تثبت نبوة النبيّ الثاني بنصّ قوليّ من النبيّ الأوّل الذي حمل تنصیصاً إلهیّاً. والقسم الثاني: ثبوت النبوة بالمعجزة، فتثبت نبوة مدّعیها بها؛ وظهور الإعجاز لم یکن إلّا التنصیص الفعليّ الإلهيّ سبحانه. والقسم الثالث: ثبوت النبوة بنقل مدّعيها نفسه کلامَ الله تعالی الدالّ علی نبوته فیکون مضون کلامه بیان نبوته، ویکون إعجازه ضامناً لاستناده إلی الله تعالی؛ نظیر القرآن الکریم الذي یکون مضمونه بیان نبوة النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) فهذا هو التنصیص القوليّ، ویکون إعجاز هذا الکلام دلیل استناده إلی الله سبحانه وهذا هو التنصیص الفعليّ؛ وقدّ تحقّق التنصیص بأقسامه الثلاثة بالنسبة إلی الرسول الأکرم (صلّی الله علیه وآله)؛ وما یطرح في المقدّمة هو شرح إجمالي من تعریف القسم الثاني. معنی الإعجاز ودلالته علی النبوة إنّ المعجزة فعل خارق العادة ولیس فعلاً مخالفاً للقانون والعلیّة، ویکون ممتازاً من جمیع العلوم الغریبة؛ حیث إنّها عدیمة لطریق الفکر وعلوم الحصول؛ فمن هذا المنطلق لم یکن قابلاً للتعلیم والتعلّم؛ بل إنّ قداسة الروح وقوّة الإرادة هما صاحبتا الإعجاز؛ فکما أنّ البدن باختیار الروح المجرّد فیکون مورد الإعجاز باختیار صاحب المعجزة ولن یتخلّف عنه أبداً؛ کما أنّه لم ینفعل بأثر أيّ عامل آخر، فعلیه یکون شاهد صدق دعوی النبوة أو الإمامة هو صاحب الإعجاز؛ لأنّ هذا الفعل إنّما هو فعل غیر معتاد بأمر إلهيّ ویکون علامة تصدیقه لمن ادّعی الرسالة، ویفید تصدیق الله سبحانه الیقینَ. یحتمل أن یقال: أنّه أولاً: ما هو المعیار لتعیین کون فعل صادراً من الله تعالی ولم یستند إلی عامل آخر؟ وثانیاً: کیف یتسنّی تعیین کون هذا الفعل صادراً من الله سبحانه بجهة تصدیق النبيّ (علیه السلام)؟ وثالثاً: کیف یعلم صدق المدّعي فیما صدّقه الله تعالی فيه. فیمکن أن یقال إجابة علی هذا السؤال؛ أنّه وإن کان کلّ موجود لم یکن وجوده عین ذاته مخلوقاً لله تعالی ویؤید هذا المعقول ما ورد في المنقول أیضاً [إشارة إلی قوله تعالی]؛«اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»؛(الرعد/16)؛ وأنّه یستحیل وجود کلّ أمر محدث إلّا بإذن من الله عزّ وجلّ؛ فالمعجزة من جهة الثبوت ذلك الأمر المحدث الخاصّ الذي لم یأذن الله تعالی بتحقّق مثله أو أفضل منه، ویمکن أن یقال في مقام الإثبات؛ أنّ المعجزة في کلّ عصر هي من أکثر الفروع العلمیة تطوّراً في برهة تحقّقها؛ کما هو مستفاد من سبب اختلاف المعاجز علی مرّ الأزمنة. فنظراً إلی کون مدّعي النبوة متحدیّاً بعرضه المعجزة فیطلب من یبارزه في هذا المقام فتنبعث حوافز الآخرین للقیام أمامه، وتثار دواعٍ کثیرة للمشارکة في الحرب هذه، فیرجع عامة الناس إلی الخبراء في ذلك الفرع فإنّهم أصحاب الرأي فیه بنحو یستطیعون بعد التدبّر في جمیع جوانب الأمر والاستمداد ببعض المبادئ التجربیة في فرعهم المختصّون فیه أن یجدوا عن طریق الحدس أنّ کلّ ما أتی به مدّعي النبوة وإن کان یشبه ببعض أفعال الخبراء غیر المعادة في هذا المجال إلّا أنّه بالتأمل الکافي یستنتجون أنّه لم یکن من نوع عملهم حتّی یتسنّی لهم أو لغیرهم التفاتاً إلی التطوّر المتوقّع في ذلك الفرع أن یأتوا بمثل ما أتی به مدّعي النبوة؛ کما کان الحال بالنسبة إلی سحرة فرعون فإنّهم بعد التدبّر في ما أتی به موسی الکلیم (علیه السلام) وجدوا أنّ فعل مؤسی (علیه السلام)( لم یکن من نوع أفعالهم حتّی یستطیعوا أن یأتوا بأنفسهم أو غیرهم -نظراً إلی تطوّر السحر- بمثل ما أتی به موسی الکلیم (علیه السلام)؛ فلأجل هذا آمنوا به فتحمّلوا کلّ خطر محتمل لصیانة دین الله عزّ وجلّ. ولو لم تکن معرفة المعجزة مستندة إلی البرهان العقلي ویقتصر فیها علی کونها خرقاً للعادة فلا یعتمد علی مثل هذه المعجزة؛ فإنّ الفئة غیر الخبیرة التي آمنت بموسی الکلیم (علیه السلام) بما أنّهم کانوا سالکین محور الحسّ ولم یدوروا مدار العقل کما آمنوا بموسی بعد ما رأوا انقلاب عصاه حیّة؛ فقد ارتدّوا عن دین موسی بمجرد ما سمعوا خبر عجل السامريّ فمالوا إلیه وترکوا موسی (علیه السلام) بعدئذ. فالغایة من ذلك کلّه أنّ للمعجزة في مقام الثبوت معیاراً کما هو الوضع في مقام الإثبات فلتمییزها معیار خاص؛ وکما أنّ الخبراء في سائر الأمور هم مراجع غیرهم ففي تمییز المعجزة یرجع العوام إلی خبرائها الأدّقاء. فالخلاصة أنّ المعجزة شيء ممکن الوجود ذاتاً وممتنع الوجود عادة وتمییز امتناعه المعتاد إنّما هو علی عاتق الخبراء في هذا المجال، وسند تمییزهم بعد الاستمداد من المبادئ التجربیة في الفرع المتطوّر لا تجربة معرفة النبيّ، أمر حدسي؛ حیث إنّ امتیاز المعجزة الجوهريّ عن غیرها ساحة مناسبة لحدس الخبراء الأخصّائیین؛ فیا حبّذا لو لم یلتصق السحر بالمعجزة؛(سحر با معجزه پهلو نزند دل خوش دار). ویمکن أن یقال في إجابة السؤال الثاني؛ أنّ قداسة الروح في مقام العلم الحضوري هي موجبة لشهود معارف الغیب وأسرار العالم، وفي مقام القدرة أساس التصرّف في نظام الکون، فتحقّق ذلك العلم بتعلیم إلهيّ کما أنّ هذه القدرة هي بتقدیر إلهيّ أیضاً، وبما أنّ النیل إلی مقام النبوة أمر غیر معتاد فلا یصدّق دعویها إلّا ما یکون من نوع خوارق العادات، ومعیار تمییزها علی عاتق الخبراء في هذا الباب الذي یشبه فرعه المعجزةَ، والمدار في تمییزها هو الحدس القوي الذي صالح لتأسیس قیاس برهاني؛ إلّا أنّه لا یبلغ مرتبة الحدسیّات ولا یصل إلی مرتبة الأوّلیّات؛ وبما أنّ المعجزة في شيء هي علامة تصدیق إلهيّ ویعبّر عنها بالآیة في النصوص الدینیة من القرآن الکریم وغیره فتکون أمارة صدق النبوة أیضاً. المعجزة علامة النبوة أم الإمامة کما أنّ کلّ موجود ممکن الوجود سواءاً کان المعتاد أو من غیره آیةُ التوحید فکذلك کلّ أمر عزیز غیر معتاد علامة النبوة أو الإمامة لمن أتی بهما. وکما أنّ کلّ إنسان سلیم الصدر یصل إلی وجود خالق للعالم بأدنی تأمّل کاف؛[إشارة إلی قوله تعالی]؛«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ»؛(آل عمران/190)؛ فمثله أنّ کلّ إنسان سلیم النفس لو تدّبر في جوانب کلّ موجود عزیز غیر معتاد في عصره فیجد صدق نبوة أو إمامة من ادّعیهما حینئذ. وکما أنّ الغافلین عن رؤیة آیات الله سبحانه لا یرون طرفاً توحیدیّاً؛«وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ»؛(یوسف/105)؛ فمثلهم أهل اللجاجة والعناد أیضاً فلم یبلغوا مرتبة شهود آیات النبوة أو الإمامة انتفاعاً نبویّاً أو ولویاً؛ کما قال سبحانه:«وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ»؛(البقرة/145). ویمکن أن یقال في إجابة السؤال الثالث؛ أنّ العلاقة بین المعجزة وقداسة الروح أمر تکویني لا عقدي، فکما أنّ کلّ وجود ممکن هو آیة وجود الله تعالی وإنّ هذه العلامة أمر تکویني لا وضعي، فأنّ کلّ موجود عزیز غیر معتاد هو آیة قداسة روح ولي الله أیضاً، وإنّها أمر تکویني لا عقدي. فکذا العلاقة بین المعجزة والرسالة والإمامة بمعنی الزعامة والولایة علی الناس التي هي أمر عقدي فإنّه أمر تکویني واقعاً قابلٌ للاستدلال العقليّ ولم یعد اعتباریّاً قطّ. توضیحٌ: إنّه بناءاً علی رأي الأشاعرة الذین أنکروا الحسن والقبح العقلیین وقد منعوا أيّ تساؤل حول الربّ تعالی فاستشهدوا بقوله تعالی:«لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»؛(الأنبیاء/23)؛ تأییداً لما ذهبوا إلیه وتصحیحاً لمعتقدهم فلا یصل الکلام إلی أصل مبحث ضرورة النبوة، ولزوم إرسال الأنبیاء، ووجوب إرسال الکتب السماویة حینئذ، حتّی یبحث عن علاقة المعجزة بصدق مدّعي النبوة؛ ویشکل علیهم بأنّه لو کان الأمر کذلك فما هو المانع من تصدیق الله تعالی شخصاً کاذباً حینئذ فإنّکم ذهبتم إلی عدم قبحه عقلاً. ولکنّ الأمر [یختلف تماماً] بناءاً علی مذهب الإمامیة الذین ذهبوا إلی الحسن والقبح العقلیین وإن کان بینهما فرق واسع؛ حیث إنّ الإمامیة قالوا بضرورة صدرو الخیر والحسن من الله تعالی وامتناع صدور الشرّ والقبیح منه سبحانه، وقالت المعتزلة بالضرورة أو الامتناع علی الله تعالی، إلّا أنّه یجوز الکلام عن ضرورة النبوة وفروعها أصلاً. إنّ المراد من الحسن والقبح العقلیین في هذه الأبحاث هو غیر ما یراد منهما في مباحث الحکمة العملیة؛ کما أنّ المراد من بالوجوب هنا هو الضرورة الفلسفیة لا وجوبه الفقهي. إنّ الحسن والقبح في الحکمة أمران اعتباریان فیصطحبان وجوب الاعتبار وحرمته تبعاً؛ إلّا أنّ الحسن والقبح في الحکمة النظریة أمر عیني لأنّهما یرجعان فیها إلی الکمال والنقص في الوجود؛ لا إلی اعتبار المعتبرین؛ فیصطحب الضرورة والامتناع الفلسفیین قهراً لا الوجوب والحرمة الفقهیین. ومثاله نحو ما جاء في القرآن الکریم بخصوص أصاف الله تعالی الثبوتیة کالصدق في قوله تعالی:«...وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا»؛ (النساء/122)؛ والوفاء بالعهد في قوله تعالی:«وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ»؛ (التوبة / 111)؛ و[نفي] الصفات السلبیة عنه سبحانه في قوله تعالی:«وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»؛ (الکهف/49)؛ وإخلاف الوعد في قوله عزّ وجلّ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ»؛ (آل عمران/9)؛ ولیس المراد هذه التوصیفات شرح أوصاف الحکمة العملیة والأمور العهدیة؛ بمعنی أنّه لو قیل أنّ الله تعالی صادقٌ عادلٌ فلیس معناه أنّ فلاناً صادقٌ عادلٌ؛ حیث إنّ الثاني اعتباري والأوّل حقیقي. إذن اعتبار الحسن والقبح في الحکمة العملیة لا یستلزم إشکالاً في خصوص المقام الذي هو الحکمة النظریة ولا یحتمل انقداح إمکان صدور القبیح؛ أي: العالم الناقص عن الله تعالی؛ وإلی هذه الحقیقة یشیر ما قاله تعالی بالنسبة إلی نبیّه الأکرم (صلّی الله علیه وآله) أنّه لو تقوّل علی الله سبحانه واستغلّ منصب النبوة وقوة الإعجاز للافتراء علی الله عزّ وجلّ ما لم یقله فإنّ الله سبحانه یقطع منه الوتین أي شریان حیاته، ویسلب منه القدرة أیضاً [إشارة إلی قوله تعالی:«وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ‎*‏ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ‎*‏ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ»؛ (الحاقة/44 – 46)]؛ لا شرح أمر اعتباري. فخلاصة الأمر أنّه في هذا السؤال یکون خلط الحقیقة مع الاعتبار أمراً مشهوداً؛ حیث إنّ الامتناع العقلي اشتبه بالامتناع الشرعي. تذکرةٌ: 1 . إنّ ضرورة الإعجاز ودلاته علی صدق دعوی الرسالة -کما هو مطروح في فنّ الکلام- فهي معنونة في فنّ الحکمة أیضاً؛ فلهذا اعتبر إبن سینا في إلهیات الشفاء، وکذا صدر المتألهین (قدّس سرّه) في المبدأ والمعاد المعجزةَ سنداً لصدق النبيّ الإلهي. 2 . جوّز الإمام الرازي طرح مسألة الخیر والشرّ بناءاً علی اختیار الفاعل وعلی مبنی الحسن والقبح العقلیین؛ والذین یرون الله تعالی فاعلاً موجَباً (بالفتح) أو لم یقولوا بوجود بحسن ولا قبح فیتفکرون حسب قوله تعالی:«لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ»؛ (الأنبیاء/23)؛ فلا یحقّ لهم الدخول بهذا البحث. وأجاب المحقّق الطوسيّ (رحمه الله) قائلاً: إنّ الحکماء یبحثون في هذه الجهة أنّه کیف یمکن صدور الشرّ ممن هو خیر ذاتاً فیخبرون الآخرین أنّ الصادر لیس بشرّ حقیقة؛ وأنّ کلّ ما یکون شرّاً حقیقة لیس بأمر وجودي؛ بمعنی أنّ قبح صدور الشرّ ممن هو خیر ذاتاً هو الممتنع عقلاً لا الممتنع شرعاً أو عرفاً؛ کما قال في تأیید حسن عقوبة المفسد:«...وأراد بالحَسَن ههنا الخیر المقابل للشرّ لا ما یذهب إلیه المتکلّمون»؛ (شرح الإشارت ؛ ج 3 ؛ 330). 3 . إنّ لکلّ نبيّ عملین؛ أحدهما: الدعوة إلی المعارف والأحکام؛ والثاني: القیام بدعوی الرسالة، فالتحرّي في مفادّ الدعوة وتطابقها مع البرهان العقليّ موجب لإثبات صحة الدعوة؛ لا صدق الدعوی وکلّ ما تثبته الدعوی، فبغض النظر عن الشهود العرفاني أو تنصیص النبيّ السابق فهي المعجزة بعینها، وبإثبات صدق الدعوی یتسنّی الوصول إلی صحة مفاد الدعوة؛ فالتلازم هو من جانب واحد لا من جانبین حینئذ؛ بمعنی أنّه مع صدق إثبات الصدق بالدعوی تثبت صحة الدعوة؛ غیر أنّ صرف إثبات صحة الدعوة لم یکن دلیلاً علی صدق الدعوی. 4 . إنّ المعجزة هي لإثبات النبوة الخاصة لا العامة منها، نعم؛ إنّ الکلام في أصل الإعجاز یعود إلی النبوة العامة؛ ولکنّ تحقّقه في الخارج لا یثبت عن طریق المعجزة التي هي عائدة إلی النبوة الخاصة. 5 . لقد عبّر القرآن الکریم عن المعجزة بأنها برهان کاف؛ کما حکی عن عصی موسی ویده البیضاء بقوله تعالی:«فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ»؛ (القصص/32)؛ فیری إیمان من آمن استناداً إلی المعجزة صحیحاً وکفره سبباً لهلاکه فلم یکن فرق في هذا المجال بین المعجزة الاقتراحیة وبین المعجزة الابتدائیة حینئذ والیوم القرآن الکریم هي المعجزة الوحیدة الباقیة من الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله) الذي لم یزل یتحدّی ویحتجّ علی الناس بعدم قدرة الإتیان بمثله بقوله تعالی:«فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»؛ (البقرة/24). امتناع [صدور] تصدیق الکاذب من الله تعالی عقلاً 6 . امتناع [صدور] تصدیق الکاذب من الله تعالی هو مغن عن أنّه تصدیق الکاذب موجب للإغواء بالجهل وإضلال الناس؛ حیث إنّه في نفس المرحلة الأولی محکوم بالامتناع عقلاً؛ وإن کان الإضلال الابتدائي لا الإضلال العقابي هو محالاً آخر ویکون قابلاً للاستناد في حدّ نفسه. 7 . إنّ احتمال [صدور] الکذب من الله تعالی مع تعیین نبوة النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) موجب لنفي الاعتماد مما یقوله؛ لأنّ النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) وإن کان صادقاً مخبراً إلّا أنّ الخبر الذي ینقله فإنّه یکون من الله تعالی، ومع احتمال صدور الکذب من الله تسبحانه -والعیاذ بالله- یقتضي فساد کلّ أمر مفید نافع حینئذ. ذهب بعض إلی أنّ المعجزة هي السبب الوحید الذي تتسنّی معرفة کلام الله تعالی من خلالها، ومن دونها یستحیل علی کلّ موجود أن یمیّز بین کلام الحقّ تعالی وبین کلام غیره وهو رأي في غایة الإفراط؛ کما أنّ الرأي السابق القائل بأنّ المعجزة إنّما جائت لتوجیه العوام لا البرهان العقلي فهو في غایة التفریط. یقول الإمام الرازي: إنّه کما تستوعب الأمّة ما یقوله النبيّ عن الله تعالی بالمعجزة ویعلمون أنّ هذا الداعي صادق فیما یدّعي فکذا النبيّ یعلم أنّ الکلام الذي أنزل علیه هو کلام ملك الوحي الذي أصبح مأموراً بأمر الله تعالی بإبلاغ کلامه جلّ شأنه؛ ولم یکن هذا الشیطانَ؛ ومثله ملك الوحي فإنّه یعلم أنّ ما تلقّاه هو کلام الله سبحانه لا کلام غیره وذلك عبر مشاهدة المعجزة أیضاً. (تفسیر فخر الرازي ؛ ج 7 ؛ ص 139 ؛ في تفسیر الآیة 285 من سورة البقرة المبارکة). إنّ ما مرّ فهو کان انتهاضاً لإثبات کون المعجزة أمراً برهانیاً ورداً علی المفرّطین فيه؛ ویلزم الانتهاض للردّ علی المُفرطین أیضاً. فما أنّ العلم الحصولي ینقسم إلی قسمین؛ هما: القسم البدیهي، والقسم النظريّ؛ الشيء الأکثر بداهة من البدیهي هو ما یعبّر عنه بالأوّلي کامتناع اجتماع النقیضین ویحلّ في ضوئه کلّ مسألة نظریة، فکذا العلم الحضوري فإنّه ینقسم إلی قسمین؛ قسم ینتفع منه المخلَصون (بالفتح) فلا یدخله ریب ولا یشوبه إبهام؛ لأنّ الشیطان لا یستطیع أن یدخل في طریق هؤلاء الذین أخلصوا [أنفسهم، وأعمالهم، ودینهم] لله تعالی إخلاصاً مجرّداً تامّاً عقلیّاً من الداخل وکذلك إبلیس الإضلال، والإغواء، والتغلیظ وغیرها فإنّه عاجز من الدخول من الخارج أیضاً؛ ولو لم یکن في منطقة من مناطق العالم شيء غیر الحقّ فبلغ الإنسان السالك إلی المقام المنیع وعلم بخصوصیّته فأنّ کلّ ما یراه في هذه المرتبة لا یکون إلّا حقّاً ولا یظهر في نفسه احتمال خلاف أیضاً. إنّ کلّ ما یجده النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) هو حقّ کاملاً، وإنّ کلّ ما یسمعه الملك حقّ تماماً، فلا النبيّ یحتمل الخلاف، ولا الملك یجوّز ظهور الخلاف أیضاً. إنّ إقلیم الإعجاز لا یکون في بیئة یعتریها وهم أو إغواء إبلیس؛ ولو کانت هناك بیئة مأمونة من لدغ الوساوس فلا حاجة إلی الإعجاز حینئذ؛ أي: الملك بعدما یری متن کلام الحقّ فلا یشك فیه حتی یطلب لرفع شکّه معجزة؛ فکذا النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) بعد رؤیة صرف الحقّ فلا یحتمل الخلاف أبداً حتی یحتاج لرفع هذا الاحتمال إلی معجزة أخری أیضاً. کون مسألة الإمامة اعتقادیة القسم الثاني إنّ الإمامة سواءاً طرحت ضمن بحث کلامي أم اعتبرت ضمن سیرة مسألة فلسفیة؛ وسواءاً شوهدت بمنظار العرفان النظري أم بغیره فهي من المسائل الاعتقادیة یبحث عنه في البحث عن أوصاف الله سبحانه وأفعاله؛ وإن کان مستواها مختلفة عن نظائرها من البحوث. فإنّ الإمامة عند العارف هي الخلافة الإلهیة علی جمیع مخلوقات العالم بدءاً بعرض الملکوت ونهایة إلی فرش الطبیعة والناسوت، والإمام هو الإنسان الکامل الذي بیُمنه رزق الوری وأنّه منصوب مأمور من قِبل الله تعالی بغرض تنظیم الأمور الفردیة والاجتماعیة الحاکمة علی الجوامع البشریة، بل أنّه اختصّ لتعدیل أسماء الله الحسنی؛ لأنّ کلّ إسم یقتضي دولته الخاصة وله اقتضاء خاصّ أیضاً، فإنّ الجامع لجمیع هذه الأسماء هو الإسم الأعظم؛ فیوصل [الإمامُ] کلَّ إسم إلی مقتضاه الخاصّ، ویحفظ نظم هذه الأسماء أیضاً. إنّ الإنسان الکامل الذي هو مظهر إسم الله الأعظم هو ظرف مناسب لتقدیر مقتضی أسماء الله الحسنی لأنّه خلیفة الله سبحانه في جمیع العالم الممکن فعیش في ساحة خلافته جمیع المخلوقات فإنّه لو سجد له جمیع الملائکة کلّهم الذین هم مدبّرات الأمر فإنّه [خیر] دلیل علی کون الکون الممکن خاضعاً أمامه بأجمعه. إنّ الإمامة لدی الحکیم مصطحبة لروح قدسي، والإمام في باطنه ملك معصوم وهذا البحث لم یلق بمستوی مباني بعض المتکلّمین الذین لم ینقدح لهم مفهوم أصل تجرّد الروح. وعلی أي حال؛ إنّ الإمامة عند متکلّمي الشیعة مسألة أساسیة أصلیة لا فرعیة جزئیة؛ کما فصّلنا ذلك في رسالتنا حول الولایة والقیادة. ولا یخفی أنّه قبل التعدّي علی شروط الإمامة وقبل النیل من أصاف الإمام فإنّ الإمام في النهایة هو تنزّل من عرش الخلافة الإلهیة إلی فرش الخلافة علی الناس، فلو تخلّی الإمام عن الساحة حتی یصنعوا للناس خلیفة في سقیفة [سعد بن عبادة الأنصاريّ]؛ فإنّهم بصنیعهم هذا قد أنزلوا مسألة الإمامة من قمة أصالتها وکلامیّتها إلی حضیض کونها فرعیة فقهیة؛ وأسقطوها من کونها فعلاً إلهیاً إلی کونها فعلاً خلقیاً فبدلّوا الانتصاب الإلهي إلی انتخاب الناس وبئس ما عملوا بدلاً؛ ثمّ حکموا علی کلّ حاکم بالإمامة مفترضاً طاعته وحسبوا أنّهم في مستوی الله تعالی والنبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) صنعاً فرأوا طاعة الأخیر والأولین (وهما الله تعالی والرسول الأکرم (صلّی الله علیه وآله) علی حدّ سواء؛ وفي النتیجة أطلقوا قوله تعالی:«أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ»؛ (النساء/59)؛ علی حکّام کانوا یرون الاجتهاد مقابل نصّ المعصوم مشروعاً؛ فانظر ماذا تری. إنّ الإمامة التي لا تحصل إلّا بتنصیص إلهي (اللوامع الإلهیة ؛ ص 333) سواءاً کان بنصّ قوليّ نظیر ما جاء في حدیث الغدیر، وحدیث المنزلة، وغیرها وسواءاً کان بنصّ فعليّ بمعنی ظهور الإعجاز الذي هو بحکم التنصیص القوليّ فإنّه قد رأوا بیعة أشخاص أو مشورة فئة خاصة أو تحقق الاستیلاء کافیاً (نفس المصدر ؛ ص 349)؛ وعبّروا عن غایة الزعامة بکونها صرف [تحقّق] نظم صوري بینما إمامة المعصوم هي قطب الرحی الوحید؛ [کما قال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام)]؛«إنّه لیعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحی»؛(نهج البلاغة ؛ الخطبة الثالثة (الشقشقیّة). وفي الختام نأتي بما قاله المحقّق الدواني في رسالة نور الهدایة بخصوص ما یقال بشأن سبب تعظیم أمیر المؤمنین (علیه أفضل صلوات المصلّین) بـ«کرّم الله وجهه» تبرّکاً؛ «...حینما کان عليٌ (علیه السلام) في بطن أمّه فاطمة بنت أسد فکلّما رآها النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) کانت تقوم له لا إرادیاً وکانت تخبرهم بعد ما کانوا یتسفسرون عن سبب قیامها عن فتقول لهم: اشعر بحالة غریبة فإنّي کلّما رأیت النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) یتحرّك الجنین الذي في بطني وأجد أنّه قائم في بطني فلهذا اقوم کلّما اراه (صلّی الله علیه وآله) من حیث لا اشعر؛ وإنّ الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله) لو انتقل من مکان إلی آخر عندي فیتحرّك بعده الجنین فوراً فأجد أنّه متجة نحو ما استقرّ فیه الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله)؛ فیقهرني علی الاتجّاه نحوه؛ فرأی أکثر أهل السنة أنّ هذا هو سبب نعته بقولهم:«کرّم الله وجهه»؛ فوجدتُ أنّه (علیه السلام) کان عالماً خبیراً بمرتبة النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) وهو لم یولد بعدُ، ولم یحصل مثل هذا إلّا لنفس قدسيّ...». (الرسائل المختارة ؛ ص 122). فالخلاصة ممّا قرّر؛ أنّ الإمامة عند الشیعة مسألة کلامیة؛ لأنّ تعیین الإمام فعل إلهي وهي عند السنة مسألة فقهیة؛ لأنّ تعیین الإمام مما یقوم به الناس فإنّهم قبل أن یخرجوا الإمام من الساحة قد حرّفوا الإمامة من الکلام إلی الفقه؛ وبه ینقدح سرّ کون الإمامة من الأصول عند الثقافة الشیعیة . والحمد لله ربّ العالمین قم المقدّسة فروردین 1368 الجواديّ الآمليّ "وتمّت ترجمتها في قسم دارالترجمة بمؤسسة الإسراء الدولیّة القائمة بنشر رؤی وتألیفات سماحة آیة الله الشیخ عبدالله الجواديّ الآمليّ (دام ظلّه) - قم المقدّسة"   النبوة، والمعجزة، والإمامة بسمه تعالی شأنه العزیز یصل إلی ذهننا في هذا المختصر توضیح رسالتین نافعتین؛ الأوّل: بیان معنی المعجزة وسرّ تلازمها مع صدق دعوی النبوة، والثاني: بیان معنی الإمامة وسرّ عدّها من أصول المذهب في مکتب التشیّع. القسم الأوّل: علاقة الرسالة، والنبوة، والولایة بعضها من بعض  إنّ رسالة کلّ نبيّ متعلقة بنبوّته وتتعلّق نبوّته بولایته؛ فجهة إیصال الإنسان الکامل إلی الله سبحانه إنّما هي ولایته، وجهة علاقته بالمجتمع البشريّ إنّما هي رسالته، والرابط بین هاتین الجهتین هي النبوة، کما أنّ اختلاف الرسالات مرهون لاختلاف النبوّات، وامتیاز النبوّات یتحقق في ضوء تفاضل الولایات. إنّ الکلام حول النبوة في مقام الثبوت إنّما هو بتبیین تجرّد الروح ومراتب العقل النظريّ والعمليّ منه، ونیل الإنسان الکامل لقداسة النفس، واتباع قوی الوهم والخیال قوی الفهم والشهود فیه الذي لم یسعه هذا الموجز. وإنّ الکلام حول النبوة في مقام الإثبات فهو لبعض الناس السالکین بالشهود العرفاني الحاصل لهم وهم قلیلون، الذین لو أقیم لهم دلیل من العقل أو من النقل کان عندهم بمنزلة تأیید المطلب الثابت عندهم لا بمرتبة إثبات أصل المطلب، غیر أنّ إثبات ذلك لعامة الناس لا یتحقّق إلّا بتوسّط تنصیص إلهيّ. فکلّما نصّ الإله علی نبوة نبيّ ما تثبت نبوته حینئذ، وهذا التنصیص إمّا بالقول وإمّا بالفعل ویتفق النصّ القوليّ مع النصّ الفعليّ عیناً في بعض الأحیان.  فالقسم الأوّل: ثبوت نبوة من ثبتت نبوته بقول نبيّ ثابت النبوة قبله فیما لو صرّح بتعیین شخص معیّن کونه نبیّاً؛ ففي هذا المورد تثبت نبوة النبيّ الثاني بنصّ قوليّ من النبيّ الأوّل الذي حمل تنصیصاً إلهیّاً. والقسم الثاني: ثبوت النبوة بالمعجزة، فتثبت نبوة مدّعیها بها؛ وظهور الإعجاز لم یکن إلّا التنصیص الفعليّ الإلهيّ سبحانه. والقسم الثالث: ثبوت النبوة بنقل مدّعيها نفسه کلامَ الله تعالی الدالّ علی نبوته فیکون مضون کلامه بیان نبوته، ویکون إعجازه ضامناً لاستناده إلی الله تعالی؛ نظیر القرآن الکریم الذي یکون مضمونه بیان نبوة النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) فهذا هو التنصیص القوليّ، ویکون إعجاز هذا الکلام دلیل استناده إلی الله سبحانه وهذا هو التنصیص الفعليّ؛ وقدّ تحقّق التنصیص بأقسامه الثلاثة بالنسبة إلی الرسول الأکرم (صلّی الله علیه وآله)؛ وما یطرح في المقدّمة هو شرح إجمالي من تعریف القسم الثاني. معنی الإعجاز ودلالته علی النبوة إنّ المعجزة فعل خارق العادة ولیس فعلاً مخالفاً للقانون والعلیّة، ویکون ممتازاً من جمیع العلوم الغریبة؛ حیث إنّها عدیمة لطریق الفکر وعلوم الحصول؛ فمن هذا المنطلق لم یکن قابلاً للتعلیم والتعلّم؛ بل إنّ قداسة الروح وقوّة الإرادة هما صاحبتا الإعجاز؛ فکما أنّ البدن باختیار الروح المجرّد فیکون مورد الإعجاز باختیار صاحب المعجزة ولن یتخلّف عنه أبداً؛ کما أنّه لم ینفعل بأثر أيّ عامل آخر، فعلیه یکون شاهد صدق دعوی النبوة أو الإمامة هو صاحب الإعجاز؛ لأنّ هذا الفعل إنّما هو فعل غیر معتاد بأمر إلهيّ ویکون علامة تصدیقه لمن ادّعی الرسالة، ویفید تصدیق الله سبحانه الیقینَ. یحتمل أن یقال: أنّه أولاً: ما هو المعیار لتعیین کون فعل صادراً من الله تعالی ولم یستند إلی عامل آخر؟ وثانیاً: کیف یتسنّی تعیین کون هذا الفعل صادراً من الله سبحانه بجهة تصدیق النبيّ (علیه السلام)؟ وثالثاً: کیف یعلم صدق المدّعي فیما صدّقه الله تعالی فيه. فیمکن أن یقال إجابة علی هذا السؤال؛ أنّه وإن کان کلّ موجود لم یکن وجوده عین ذاته مخلوقاً لله تعالی ویؤید هذا المعقول ما ورد في المنقول أیضاً [إشارة إلی قوله تعالی]؛«اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»؛(الرعد/16)؛ وأنّه یستحیل وجود کلّ أمر محدث إلّا بإذن من الله عزّ وجلّ؛ فالمعجزة من جهة الثبوت ذلك الأمر المحدث الخاصّ الذي لم یأذن الله تعالی بتحقّق مثله أو أفضل منه، ویمکن أن یقال في مقام الإثبات؛ أنّ المعجزة في کلّ عصر هي من أکثر الفروع العلمیة تطوّراً في برهة تحقّقها؛ کما هو مستفاد من سبب اختلاف المعاجز علی مرّ الأزمنة. فنظراً إلی کون مدّعي النبوة متحدیّاً بعرضه المعجزة فیطلب من یبارزه في هذا المقام فتنبعث حوافز الآخرین للقیام أمامه، وتثار دواعٍ کثیرة للمشارکة في الحرب هذه، فیرجع عامة الناس إلی الخبراء في ذلك الفرع فإنّهم أصحاب الرأي فیه بنحو یستطیعون بعد التدبّر في جمیع جوانب الأمر والاستمداد ببعض المبادئ التجربیة في فرعهم المختصّون فیه أن یجدوا عن طریق الحدس أنّ کلّ ما أتی به مدّعي النبوة وإن کان یشبه ببعض أفعال الخبراء غیر المعادة في هذا المجال إلّا أنّه بالتأمل الکافي یستنتجون أنّه لم یکن من نوع عملهم حتّی یتسنّی لهم أو لغیرهم التفاتاً إلی التطوّر المتوقّع في ذلك الفرع أن یأتوا بمثل ما أتی به مدّعي النبوة؛ کما کان الحال بالنسبة إلی سحرة فرعون فإنّهم بعد التدبّر في ما أتی به موسی الکلیم (علیه السلام) وجدوا أنّ فعل مؤسی (علیه السلام)( لم یکن من نوع أفعالهم حتّی یستطیعوا أن یأتوا بأنفسهم أو غیرهم -نظراً إلی تطوّر السحر- بمثل ما أتی به موسی الکلیم (علیه السلام)؛ فلأجل هذا آمنوا به فتحمّلوا کلّ خطر محتمل لصیانة دین الله عزّ وجلّ. ولو لم تکن معرفة المعجزة مستندة إلی البرهان العقلي ویقتصر فیها علی کونها خرقاً للعادة فلا یعتمد علی مثل هذه المعجزة؛ فإنّ الفئة غیر الخبیرة التي آمنت بموسی الکلیم (علیه السلام) بما أنّهم کانوا سالکین محور الحسّ ولم یدوروا مدار العقل کما آمنوا بموسی بعد ما رأوا انقلاب عصاه حیّة؛ فقد ارتدّوا عن دین موسی بمجرد ما سمعوا خبر عجل السامريّ فمالوا إلیه وترکوا موسی (علیه السلام) بعدئذ. فالغایة من ذلك کلّه أنّ للمعجزة في مقام الثبوت معیاراً کما هو الوضع في مقام الإثبات فلتمییزها معیار خاص؛ وکما أنّ الخبراء في سائر الأمور هم مراجع غیرهم ففي تمییز المعجزة یرجع العوام إلی خبرائها الأدّقاء. فالخلاصة أنّ المعجزة شيء ممکن الوجود ذاتاً وممتنع الوجود عادة وتمییز امتناعه المعتاد إنّما هو علی عاتق الخبراء في هذا المجال، وسند تمییزهم بعد الاستمداد من المبادئ التجربیة في الفرع المتطوّر لا تجربة معرفة النبيّ، أمر حدسي؛ حیث إنّ امتیاز المعجزة الجوهريّ عن غیرها ساحة مناسبة لحدس الخبراء الأخصّائیین؛ فیا حبّذا لو لم یلتصق السحر بالمعجزة؛(سحر با معجزه پهلو نزند دل خوش دار). ویمکن أن یقال في إجابة السؤال الثاني؛ أنّ قداسة الروح في مقام العلم الحضوري هي موجبة لشهود معارف الغیب وأسرار العالم، وفي مقام القدرة أساس التصرّف في نظام الکون، فتحقّق ذلك العلم بتعلیم إلهيّ کما أنّ هذه القدرة هي بتقدیر إلهيّ أیضاً، وبما أنّ النیل إلی مقام النبوة أمر غیر معتاد فلا یصدّق دعویها إلّا ما یکون من نوع خوارق العادات، ومعیار تمییزها علی عاتق الخبراء في هذا الباب الذي یشبه فرعه المعجزةَ، والمدار في تمییزها هو الحدس القوي الذي صالح لتأسیس قیاس برهاني؛ إلّا أنّه لا یبلغ مرتبة الحدسیّات ولا یصل إلی مرتبة الأوّلیّات؛ وبما أنّ المعجزة في شيء هي علامة تصدیق إلهيّ ویعبّر عنها بالآیة في النصوص الدینیة من القرآن الکریم وغیره فتکون أمارة صدق النبوة أیضاً. المعجزة علامة النبوة أم الإمامة کما أنّ کلّ موجود ممکن الوجود سواءاً کان المعتاد أو من غیره آیةُ التوحید فکذلك کلّ أمر عزیز غیر معتاد علامة النبوة أو الإمامة لمن أتی بهما. وکما أنّ کلّ إنسان سلیم الصدر یصل إلی وجود خالق للعالم بأدنی تأمّل کاف؛[إشارة إلی قوله تعالی]؛«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ»؛(آل عمران/190)؛ فمثله أنّ کلّ إنسان سلیم النفس لو تدّبر في جوانب کلّ موجود عزیز غیر معتاد في عصره فیجد صدق نبوة أو إمامة من ادّعیهما حینئذ. وکما أنّ الغافلین عن رؤیة آیات الله سبحانه لا یرون طرفاً توحیدیّاً؛«وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ»؛(یوسف/105)؛ فمثلهم أهل اللجاجة والعناد أیضاً فلم یبلغوا مرتبة شهود آیات النبوة أو الإمامة انتفاعاً نبویّاً أو ولویاً؛ کما قال سبحانه:«وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ»؛(البقرة/145). ویمکن أن یقال في إجابة السؤال الثالث؛ أنّ العلاقة بین المعجزة وقداسة الروح أمر تکویني لا عقدي، فکما أنّ کلّ وجود ممکن هو آیة وجود الله تعالی وإنّ هذه العلامة أمر تکویني لا وضعي، فأنّ کلّ موجود عزیز غیر معتاد هو آیة قداسة روح ولي الله أیضاً، وإنّها أمر تکویني لا عقدي. فکذا العلاقة بین المعجزة والرسالة والإمامة بمعنی الزعامة والولایة علی الناس التي هي أمر عقدي فإنّه أمر تکویني واقعاً قابلٌ للاستدلال العقليّ ولم یعد اعتباریّاً قطّ. توضیحٌ: إنّه بناءاً علی رأي الأشاعرة الذین أنکروا الحسن والقبح العقلیین وقد منعوا أيّ تساؤل حول الربّ تعالی فاستشهدوا بقوله تعالی:«لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»؛(الأنبیاء/23)؛ تأییداً لما ذهبوا إلیه وتصحیحاً لمعتقدهم فلا یصل الکلام إلی أصل مبحث ضرورة النبوة، ولزوم إرسال الأنبیاء، ووجوب إرسال الکتب السماویة حینئذ، حتّی یبحث عن علاقة المعجزة بصدق مدّعي النبوة؛ ویشکل علیهم بأنّه لو کان الأمر کذلك فما هو المانع من تصدیق الله تعالی شخصاً کاذباً حینئذ فإنّکم ذهبتم إلی عدم قبحه عقلاً. ولکنّ الأمر [یختلف تماماً] بناءاً علی مذهب الإمامیة الذین ذهبوا إلی الحسن والقبح العقلیین وإن کان بینهما فرق واسع؛ حیث إنّ الإمامیة قالوا بضرورة صدرو الخیر والحسن من الله تعالی وامتناع صدور الشرّ والقبیح منه سبحانه، وقالت المعتزلة بالضرورة أو الامتناع علی الله تعالی، إلّا أنّه یجوز الکلام عن ضرورة النبوة وفروعها أصلاً. إنّ المراد من الحسن والقبح العقلیین في هذه الأبحاث هو غیر ما یراد منهما في مباحث الحکمة العملیة؛ کما أنّ المراد من بالوجوب هنا هو الضرورة الفلسفیة لا وجوبه الفقهي. إنّ الحسن والقبح في الحکمة أمران اعتباریان فیصطحبان وجوب الاعتبار وحرمته تبعاً؛ إلّا أنّ الحسن والقبح في الحکمة النظریة أمر عیني لأنّهما یرجعان فیها إلی الکمال والنقص في الوجود؛ لا إلی اعتبار المعتبرین؛ فیصطحب الضرورة والامتناع الفلسفیین قهراً لا الوجوب والحرمة الفقهیین. ومثاله نحو ما جاء في القرآن الکریم بخصوص أصاف الله تعالی الثبوتیة کالصدق في قوله تعالی:«...وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا»؛ (النساء/122)؛ والوفاء بالعهد في قوله تعالی:«وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ»؛ (التوبة / 111)؛ و[نفي] الصفات السلبیة عنه سبحانه في قوله تعالی:«وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»؛ (الکهف/49)؛ وإخلاف الوعد في قوله عزّ وجلّ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ»؛ (آل عمران/9)؛ ولیس المراد هذه التوصیفات شرح أوصاف الحکمة العملیة والأمور العهدیة؛ بمعنی أنّه لو قیل أنّ الله تعالی صادقٌ عادلٌ فلیس معناه أنّ فلاناً صادقٌ عادلٌ؛ حیث إنّ الثاني اعتباري والأوّل حقیقي. إذن اعتبار الحسن والقبح في الحکمة العملیة لا یستلزم إشکالاً في خصوص المقام الذي هو الحکمة النظریة ولا یحتمل انقداح إمکان صدور القبیح؛ أي: العالم الناقص عن الله تعالی؛ وإلی هذه الحقیقة یشیر ما قاله تعالی بالنسبة إلی نبیّه الأکرم (صلّی الله علیه وآله) أنّه لو تقوّل علی الله سبحانه واستغلّ منصب النبوة وقوة الإعجاز للافتراء علی الله عزّ وجلّ ما لم یقله فإنّ الله سبحانه یقطع منه الوتین أي شریان حیاته، ویسلب منه القدرة أیضاً [إشارة إلی قوله تعالی:«وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ‎*‏ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ‎*‏ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ»؛ (الحاقة/44 – 46)]؛ لا شرح أمر اعتباري. فخلاصة الأمر أنّه في هذا السؤال یکون خلط الحقیقة مع الاعتبار أمراً مشهوداً؛ حیث إنّ الامتناع العقلي اشتبه بالامتناع الشرعي. تذکرةٌ: 1 . إنّ ضرورة الإعجاز ودلاته علی صدق دعوی الرسالة -کما هو مطروح في فنّ الکلام- فهي معنونة في فنّ الحکمة أیضاً؛ فلهذا اعتبر إبن سینا في إلهیات الشفاء، وکذا صدر المتألهین (قدّس سرّه) في المبدأ والمعاد المعجزةَ سنداً لصدق النبيّ الإلهي. 2 . جوّز الإمام الرازي طرح مسألة الخیر والشرّ بناءاً علی اختیار الفاعل وعلی مبنی الحسن والقبح العقلیین؛ والذین یرون الله تعالی فاعلاً موجَباً (بالفتح) أو لم یقولوا بوجود بحسن ولا قبح فیتفکرون حسب قوله تعالی:«لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ»؛ (الأنبیاء/23)؛ فلا یحقّ لهم الدخول بهذا البحث. وأجاب المحقّق الطوسيّ (رحمه الله) قائلاً: إنّ الحکماء یبحثون في هذه الجهة أنّه کیف یمکن صدور الشرّ ممن هو خیر ذاتاً فیخبرون الآخرین أنّ الصادر لیس بشرّ حقیقة؛ وأنّ کلّ ما یکون شرّاً حقیقة لیس بأمر وجودي؛ بمعنی أنّ قبح صدور الشرّ ممن هو خیر ذاتاً هو الممتنع عقلاً لا الممتنع شرعاً أو عرفاً؛ کما قال في تأیید حسن عقوبة المفسد:«...وأراد بالحَسَن ههنا الخیر المقابل للشرّ لا ما یذهب إلیه المتکلّمون»؛ (شرح الإشارت ؛ ج 3 ؛ 330). 3 . إنّ لکلّ نبيّ عملین؛ أحدهما: الدعوة إلی المعارف والأحکام؛ والثاني: القیام بدعوی الرسالة، فالتحرّي في مفادّ الدعوة وتطابقها مع البرهان العقليّ موجب لإثبات صحة الدعوة؛ لا صدق الدعوی وکلّ ما تثبته الدعوی، فبغض النظر عن الشهود العرفاني أو تنصیص النبيّ السابق فهي المعجزة بعینها، وبإثبات صدق الدعوی یتسنّی الوصول إلی صحة مفاد الدعوة؛ فالتلازم هو من جانب واحد لا من جانبین حینئذ؛ بمعنی أنّه مع صدق إثبات الصدق بالدعوی تثبت صحة الدعوة؛ غیر أنّ صرف إثبات صحة الدعوة لم یکن دلیلاً علی صدق الدعوی. 4 . إنّ المعجزة هي لإثبات النبوة الخاصة لا العامة منها، نعم؛ إنّ الکلام في أصل الإعجاز یعود إلی النبوة العامة؛ ولکنّ تحقّقه في الخارج لا یثبت عن طریق المعجزة التي هي عائدة إلی النبوة الخاصة. 5 . لقد عبّر القرآن الکریم عن المعجزة بأنها برهان کاف؛ کما حکی عن عصی موسی ویده البیضاء بقوله تعالی:«فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ»؛ (القصص/32)؛ فیری إیمان من آمن استناداً إلی المعجزة صحیحاً وکفره سبباً لهلاکه فلم یکن فرق في هذا المجال بین المعجزة الاقتراحیة وبین المعجزة الابتدائیة حینئذ والیوم القرآن الکریم هي المعجزة الوحیدة الباقیة من الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله) الذي لم یزل یتحدّی ویحتجّ علی الناس بعدم قدرة الإتیان بمثله بقوله تعالی:«فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»؛ (البقرة/24). امتناع [صدور] تصدیق الکاذب من الله تعالی عقلاً 6 . امتناع [صدور] تصدیق الکاذب من الله تعالی هو مغن عن أنّه تصدیق الکاذب موجب للإغواء بالجهل وإضلال الناس؛ حیث إنّه في نفس المرحلة الأولی محکوم بالامتناع عقلاً؛ وإن کان الإضلال الابتدائي لا الإضلال العقابي هو محالاً آخر ویکون قابلاً للاستناد في حدّ نفسه. 7 . إنّ احتمال [صدور] الکذب من الله تعالی مع تعیین نبوة النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) موجب لنفي الاعتماد مما یقوله؛ لأنّ النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) وإن کان صادقاً مخبراً إلّا أنّ الخبر الذي ینقله فإنّه یکون من الله تعالی، ومع احتمال صدور الکذب من الله تسبحانه -والعیاذ بالله- یقتضي فساد کلّ أمر مفید نافع حینئذ. ذهب بعض إلی أنّ المعجزة هي السبب الوحید الذي تتسنّی معرفة کلام الله تعالی من خلالها، ومن دونها یستحیل علی کلّ موجود أن یمیّز بین کلام الحقّ تعالی وبین کلام غیره وهو رأي في غایة الإفراط؛ کما أنّ الرأي السابق القائل بأنّ المعجزة إنّما جائت لتوجیه العوام لا البرهان العقلي فهو في غایة التفریط. یقول الإمام الرازي: إنّه کما تستوعب الأمّة ما یقوله النبيّ عن الله تعالی بالمعجزة ویعلمون أنّ هذا الداعي صادق فیما یدّعي فکذا النبيّ یعلم أنّ الکلام الذي أنزل علیه هو کلام ملك الوحي الذي أصبح مأموراً بأمر الله تعالی بإبلاغ کلامه جلّ شأنه؛ ولم یکن هذا الشیطانَ؛ ومثله ملك الوحي فإنّه یعلم أنّ ما تلقّاه هو کلام الله سبحانه لا کلام غیره وذلك عبر مشاهدة المعجزة أیضاً. (تفسیر فخر الرازي ؛ ج 7 ؛ ص 139 ؛ في تفسیر الآیة 285 من سورة البقرة المبارکة). إنّ ما مرّ فهو کان انتهاضاً لإثبات کون المعجزة أمراً برهانیاً ورداً علی المفرّطین فيه؛ ویلزم الانتهاض للردّ علی المُفرطین أیضاً. فما أنّ العلم الحصولي ینقسم إلی قسمین؛ هما: القسم البدیهي، والقسم النظريّ؛ الشيء الأکثر بداهة من البدیهي هو ما یعبّر عنه بالأوّلي کامتناع اجتماع النقیضین ویحلّ في ضوئه کلّ مسألة نظریة، فکذا العلم الحضوري فإنّه ینقسم إلی قسمین؛ قسم ینتفع منه المخلَصون (بالفتح) فلا یدخله ریب ولا یشوبه إبهام؛ لأنّ الشیطان لا یستطیع أن یدخل في طریق هؤلاء الذین أخلصوا [أنفسهم، وأعمالهم، ودینهم] لله تعالی إخلاصاً مجرّداً تامّاً عقلیّاً من الداخل وکذلك إبلیس الإضلال، والإغواء، والتغلیظ وغیرها فإنّه عاجز من الدخول من الخارج أیضاً؛ ولو لم یکن في منطقة من مناطق العالم شيء غیر الحقّ فبلغ الإنسان السالك إلی المقام المنیع وعلم بخصوصیّته فأنّ کلّ ما یراه في هذه المرتبة لا یکون إلّا حقّاً ولا یظهر في نفسه احتمال خلاف أیضاً. إنّ کلّ ما یجده النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) هو حقّ کاملاً، وإنّ کلّ ما یسمعه الملك حقّ تماماً، فلا النبيّ یحتمل الخلاف، ولا الملك یجوّز ظهور الخلاف أیضاً. إنّ إقلیم الإعجاز لا یکون في بیئة یعتریها وهم أو إغواء إبلیس؛ ولو کانت هناك بیئة مأمونة من لدغ الوساوس فلا حاجة إلی الإعجاز حینئذ؛ أي: الملك بعدما یری متن کلام الحقّ فلا یشك فیه حتی یطلب لرفع شکّه معجزة؛ فکذا النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) بعد رؤیة صرف الحقّ فلا یحتمل الخلاف أبداً حتی یحتاج لرفع هذا الاحتمال إلی معجزة أخری أیضاً. کون مسألة الإمامة اعتقادیة القسم الثاني إنّ الإمامة سواءاً طرحت ضمن بحث کلامي أم اعتبرت ضمن سیرة مسألة فلسفیة؛ وسواءاً شوهدت بمنظار العرفان النظري أم بغیره فهي من المسائل الاعتقادیة یبحث عنه في البحث عن أوصاف الله سبحانه وأفعاله؛ وإن کان مستواها مختلفة عن نظائرها من البحوث. فإنّ الإمامة عند العارف هي الخلافة الإلهیة علی جمیع مخلوقات العالم بدءاً بعرض الملکوت ونهایة إلی فرش الطبیعة والناسوت، والإمام هو الإنسان الکامل الذي بیُمنه رزق الوری وأنّه منصوب مأمور من قِبل الله تعالی بغرض تنظیم الأمور الفردیة والاجتماعیة الحاکمة علی الجوامع البشریة، بل أنّه اختصّ لتعدیل أسماء الله الحسنی؛ لأنّ کلّ إسم یقتضي دولته الخاصة وله اقتضاء خاصّ أیضاً، فإنّ الجامع لجمیع هذه الأسماء هو الإسم الأعظم؛ فیوصل [الإمامُ] کلَّ إسم إلی مقتضاه الخاصّ، ویحفظ نظم هذه الأسماء أیضاً. إنّ الإنسان الکامل الذي هو مظهر إسم الله الأعظم هو ظرف مناسب لتقدیر مقتضی أسماء الله الحسنی لأنّه خلیفة الله سبحانه في جمیع العالم الممکن فعیش في ساحة خلافته جمیع المخلوقات فإنّه لو سجد له جمیع الملائکة کلّهم الذین هم مدبّرات الأمر فإنّه [خیر] دلیل علی کون الکون الممکن خاضعاً أمامه بأجمعه. إنّ الإمامة لدی الحکیم مصطحبة لروح قدسي، والإمام في باطنه ملك معصوم وهذا البحث لم یلق بمستوی مباني بعض المتکلّمین الذین لم ینقدح لهم مفهوم أصل تجرّد الروح. وعلی أي حال؛ إنّ الإمامة عند متکلّمي الشیعة مسألة أساسیة أصلیة لا فرعیة جزئیة؛ کما فصّلنا ذلك في رسالتنا حول الولایة والقیادة. ولا یخفی أنّه قبل التعدّي علی شروط الإمامة وقبل النیل من أصاف الإمام فإنّ الإمام في النهایة هو تنزّل من عرش الخلافة الإلهیة إلی فرش الخلافة علی الناس، فلو تخلّی الإمام عن الساحة حتی یصنعوا للناس خلیفة في سقیفة [سعد بن عبادة الأنصاريّ]؛ فإنّهم بصنیعهم هذا قد أنزلوا مسألة الإمامة من قمة أصالتها وکلامیّتها إلی حضیض کونها فرعیة فقهیة؛ وأسقطوها من کونها فعلاً إلهیاً إلی کونها فعلاً خلقیاً فبدلّوا الانتصاب الإلهي إلی انتخاب الناس وبئس ما عملوا بدلاً؛ ثمّ حکموا علی کلّ حاکم بالإمامة مفترضاً طاعته وحسبوا أنّهم في مستوی الله تعالی والنبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) صنعاً فرأوا طاعة الأخیر والأولین (وهما الله تعالی والرسول الأکرم (صلّی الله علیه وآله) علی حدّ سواء؛ وفي النتیجة أطلقوا قوله تعالی:«أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ»؛ (النساء/59)؛ علی حکّام کانوا یرون الاجتهاد مقابل نصّ المعصوم مشروعاً؛ فانظر ماذا تری. إنّ الإمامة التي لا تحصل إلّا بتنصیص إلهي (اللوامع الإلهیة ؛ ص 333) سواءاً کان بنصّ قوليّ نظیر ما جاء في حدیث الغدیر، وحدیث المنزلة، وغیرها وسواءاً کان بنصّ فعليّ بمعنی ظهور الإعجاز الذي هو بحکم التنصیص القوليّ فإنّه قد رأوا بیعة أشخاص أو مشورة فئة خاصة أو تحقق الاستیلاء کافیاً (نفس المصدر ؛ ص 349)؛ وعبّروا عن غایة الزعامة بکونها صرف [تحقّق] نظم صوري بینما إمامة المعصوم هي قطب الرحی الوحید؛ [کما قال الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام)]؛«إنّه لیعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحی»؛(نهج البلاغة ؛ الخطبة الثالثة (الشقشقیّة). وفي الختام نأتي بما قاله المحقّق الدواني في رسالة نور الهدایة بخصوص ما یقال بشأن سبب تعظیم أمیر المؤمنین (علیه أفضل صلوات المصلّین) بـ«کرّم الله وجهه» تبرّکاً؛ «...حینما کان عليٌ (علیه السلام) في بطن أمّه فاطمة بنت أسد فکلّما رآها النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) کانت تقوم له لا إرادیاً وکانت تخبرهم بعد ما کانوا یتسفسرون عن سبب قیامها عن فتقول لهم: اشعر بحالة غریبة فإنّي کلّما رأیت النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) یتحرّك الجنین الذي في بطني وأجد أنّه قائم في بطني فلهذا اقوم کلّما اراه (صلّی الله علیه وآله) من حیث لا اشعر؛ وإنّ الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله) لو انتقل من مکان إلی آخر عندي فیتحرّك بعده الجنین فوراً فأجد أنّه متجة نحو ما استقرّ فیه الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله)؛ فیقهرني علی الاتجّاه نحوه؛ فرأی أکثر أهل السنة أنّ هذا هو سبب نعته بقولهم:«کرّم الله وجهه»؛ فوجدتُ أنّه (علیه السلام) کان عالماً خبیراً بمرتبة النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) وهو لم یولد بعدُ، ولم یحصل مثل هذا إلّا لنفس قدسيّ...». (الرسائل المختارة ؛ ص 122). فالخلاصة ممّا قرّر؛ أنّ الإمامة عند الشیعة مسألة کلامیة؛ لأنّ تعیین الإمام فعل إلهي وهي عند السنة مسألة فقهیة؛ لأنّ تعیین الإمام مما یقوم به الناس فإنّهم قبل أن یخرجوا الإمام من الساحة قد حرّفوا الإمامة من الکلام إلی الفقه؛ وبه ینقدح سرّ کون الإمامة من الأصول عند الثقافة الشیعیة . والحمد لله ربّ العالمین قم المقدّسة فروردین 1368 الجواديّ الآمليّ