بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم وإيّاه نستعين

     بعد التحميد والتصلية والتسليم.

     وضمن تقديم أزكى التحايا وأصدق الدعوات، والتماس قبول الحجّ والعمرة والزيارة، ورجاء استجابة أدعية الحجيج والمعتمرين والزائرين والمناجين في الحرمين الشريفين، وطلب الصلاح والفلاح لجميع ضيوف مائدة الوحي ومأدبة الإلهام الإلهي، ورجاء حسنات الدنيا والآخرة لجميع أهل القبلة وكافّة العاكفين والطائفين، نلفت عناية الأُمّة الإسلاميّة إلى بعض النقاط ذات الصلة بالأهداف الرفيعة والمقاصد السامية للحجّ والعمرة:

     أوّلاً: إنّ الوحدة والكثرة ـ وكذا الفرد والمجتمع ـ قد يتقابلان أحياناً وقد يقترنان أحياناً أُخرى؛ إذ لیس كلّ أفراد البشر على طرازٍ واحد، ولا يتساوى جميع الشخوص، لأنّ الواحد الذي هو كوثر بحدّ ذاته يكون ممتلكاً لجميع الآثار الإيجابيّة للكثرة، والفرد الممتلك لجميع مآثر الجمع ـ دون احتساب الآخرين ـ والذي أشير إليه بأنّه «عالَمٌ منزوٍ في إحدى زوايا المجلس»[1]، هو الإنسان الكامل الإلهي الذي يتجلّى في صورة وليّ اللّه‏ المطلق بلباس النبوّة والرسالة والإمامة والخلافة وبلباس الولاية أخيراً. وهذا كثيرٌ في عين وحدته، وجمعٌ في متن فرديّته، ومن هنا قيل له (الكون الجامع)، وعُبّر عن ليلة القدر بأنّها خيرٌ من ألف شهر[2]، وعن القرآن الحكيم والكلام النورانيّ لأهل بيت الوحي والإلهام بجامع الكلم؛ بمعنى أنّه شيء كثير في عين وحدته، كما المعارف والبركات الكثيرة في متن كثرتها تندرج تحت نورٍ واحد، وما ورد حول الحكمة الإلهيّة من أنّ « وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً »[3] إن هو إلّا مظهر من مظاهر هذا القانون الكلّيّ.

     وما يجده الإنسان من مطالب متقنة وأُصول مبرهنة في صحائف الحكماء والفقهاء ومحقّقي العلوم والفنون هو تفصيل المجمل وشرح المتن المأثور من وارثي جوامع الكلم، أي نسل طه وآل ياسين.

     ثانياً: إنّ السرّ في تأسيس بيت التوحيد ـ  مضافاً إلى كونه قبلة للقريب والغريب  ـ هو اتّخاذه مطافاً موحّداً للعاكف والبادي، ورمزاً للإعلان العامّ والشامل للحضور في جوار البيت العتيق « مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ »[4]، كي يكون سبباً لنبذ موجبات الكثرة وإبعادها، والحصول على درّ الوحدة والتقاطه؛ لأنّ تمايز أفراد المجتمع بالأموال، وامتياز أحدهم على الآخر القائم على أساس « أنَا أكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأعَزُّ نَفَراً »[5] لا يستند إلاّ على صنم الغرور ووثن الهوى، وبانهدام هذا الانحطاط، يتحقّق التحليق في آفاق التوحيد الذي يمثّل تمهيد السبيل أمام وحدة الأُمّة الإسلاميّة أوّل ثماره المؤكّدة.

     إنّ نفض غبار الكثرة والطواف المتناغم في مدار بيت الواحد الأحد يمهّد سبيل التشبّه بالملائكة الذين لا مجال لأيّ نوعٍ من التزاحم بينهم، فكلّ واحدٍ منهم مستقرٌّ في مقامه المعلوم المقترن برضا اللّه‏ «تشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه»[6]. والتشبّه بالملائكة الطائفين حول العرش يغدو سبباً يصير به قلب مثل هذا الطائف عرشاً للرحمن، ومن ثمّ يحقّق الطواف حول مدار قلبه الذي هو ذلك العقل العملي العابد للرحمن والكاسب للجنان.

     ومن هنا ينكشف سرّ التعبير الإلهي عن الكعبة بأنّها سبب القيام وعلّة الصمود أمام الجهل العلمي والجهالة العمليّة: « جَعَلَ اللّه‏ُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ »[7]؛ إذ المشركون المتثاقلون وأهل النفاق والشقاق التابعون لهم لن يكون لهم أيّ سهمٍ في مقاومة المعتدين على استقلال المسلمين وغاصبي حقوقهم؛ حيث إنّ الإنسان المكبّل بقيود القعود والمبتلى بالانحطاط لا إمكانيّة له على القيام ولا قدرة له على التحليق أبداً.

     ثالثاً: يمثّل قلب الإنسان عنصراً أصليّاً في الفكر النقيّ والحوافز الإلهيّة الخالصة، وإن كان ثمة فرق کبیر بین العقل و القلب في اصطلاح أهل النظر وتعارف آل البصر؛ إلاّ أنّ أيّاً من هذه المصطلحات التي يمكن أن تشكّل حجاباً سميكاً في هذا السير الملكوتي، غير منظور فعلاً؛ لأنّ أساس العلم الصائب والعمل الصالح هو قلب الإنسان.

     ولمّا قال خاتم الأنبياء محمّد بن عبد اللّه‏ صلّى اللّه‏ عليه وآله: «إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرّفها كيف شاء» عقّب على ذلك بدعائه: «اللهم مُصرّف القلوب؛ صرّف قلوبنا إلى طاعتك»[8].

    وسئلت أُمّ سلمة زوجة الرسول الأكرم صلّى اللّه‏ عليه وآله عن أكثر ما كان يدعو به الرسول صلّى اللّه‏ عليه وآله، فقالت: إنّ أكثر دعائه كان: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك»[9]. وقال لأُمّ سلمة: «ما مَن آدمي إلاّ وقلبه بين إصبعين من أصابع اللّه‏ عزّ وجلّ، ما شاء أقام وما شاء أزاغ»[10].

    هنا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ جميع مشيئات اللّه‏ حكيمة، كما ورد في الصحيفة السجّاديّة للإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: «لا تبدّل حكمته الوسائل»[11].

    وعلى هذا تكون جميع إقامات أو إزاغات القلوب نابعة من الحكمة المقترنة بالعقل والعدل، بحيث لا يمكن أن يشوب هذا التصريف للقلوب فعل مخالف للحكمة والعدل. إذن، فكلّما انحرف القلب ومال إلى الخلاف والاختلاف، فلا بدّ أن يكون ذلك مسبوقاً بالنوايا الفاسدة والإرادات المنحرفة التي تكون سبباً في تراكم قذارات الهوى وفضلات الغرائز ممّا يؤول إلى إزاغة القلوب.

     رابعاً: إنّ مرض البدن الذي ربما ينتهي بموته أحياناً، إنّما يحدث بسبب فقدان الانسجام بين أعضائه وأجهزته الهضميّة والتنفسّيّة، فطالما كانت ذرّات البدن الدقيقة والضخمة متناغمة فيما بينها كان البدن سالماً وحيويّاً وبعيداً عن ظاهرة الموت.

     ومرض القلب ينشأ من عدم انسجامه مع قلوب الآخرين، أي القلوب الأُخرى المأمورة بأجمعها بعمارة المجتمع وإحياء الأرض والمحيط. فإذا انطبعت قلوب الأُمّة الإسلاميّة بطابع المحبّة وأُزيل غبار الكراهيّة عنها وسعى كلّ فردٍ منها بمقدار وسعه في إصلاح شعبه وبلاده، أفاض اللّه‏ سبحانه فيض الوحدة في الكثرة وفوز الاتّحاد في الآحاد المتناثرة، فما كان تقليب القلوب إلاّ تقليباً حكيماً وسيبقى كذلك. أمّا لو انهزمَ بدر المحبّة والوفاء أمام خوف الكراهية، وحجبَ كسوفُ الحقد شمسَ اللطف والصفاء، وافتقر المجتمع إلى لياقته لاستقبال كرم اللّه‏ الوهّاب الستّار؛ فيَكِلُهم اللّه‏ سبحانه إلى أنفسهم، وهكذا يسقطون ويتخبّطون في وادي تيه التوهّم والعداوة والبغضاء.

     هذا، وربما أمكن أحياناً ببركة نبوّة أحد الأنبياء أو إمامة أحد الأئمّة أو ولاية أحد الأولياء أن يزيل اللّه‏ الأحقاد من القلوب بصورة إعجازيّة، فيصير أصحابها كالأحبّاء الخُلّص وهم الذين كانوا لا يقرّ لهم قرار من شدّة خصومتهم وصراعاتهم. وهذا عين ما حدث في صدر الإسلام: « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه‏ِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه‏ِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألَّفَ بَـيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه‏ُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »[12]. وحبل اللّه‏ المتين لا يناله اضمحلالٌ ولا تآكلٌ بفضل ارتباطه بالقدرة الأزليّة.

     وهذا الاهتمام بمسألة الوحدة أوجب وجوب الاعتصام بحبل الوحدة والأمر بها من جهة، وتحريم التفرّق والنهي عنه من جهةٍ أُخرى، وإن كان هذا التحريم ينبع من ذلك الإيجاب، ولم يردا باعتبارهما حكمين فقهيّين مستقلّين في موضوعٍ واحد.

     إنّ ما ابتلي به بعض أهل الكتاب من اليهود والنصارى كان من سنخ التعذيب الإلهي الذي تمثّل بتفشّي الاختلاف والعداوة والبغضاء في مجتمعاتهم: « وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّه‏ُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ »[13]. ونسيان العهد الإلهي وعدم التقيّد بالعهود الدينيّة هو الذي يمهّد لتفرّق الأُمّة وابتعاد أفرادها بعضهم عن بعض.

     إنّ (العِدْي) و (العَدْي) يعنيان الجانب والناحية، ولمّا كان اختلاف وتفرّق أفراد المجتمع عن بعضهم يدفع بكلّ منهم إلى جهة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة وأخلاقيّة خاصّة؛ لذا عُبّر عن حالة التفرّق هذه بالعداوة، وهي حالة تشیع فيها الأحقاد المتقابلة فتبدّل القلوب البیضاء إلى سوداء وتستتبع الکثیر من الأضرار والآفات.

     « وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللّه‏ِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا اُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَألْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ »[14]، فالكفر والطغيان أمام حكم الخالق صار سبباً في تشتّت اليهود والاختلاف الشديد في ما بينهم. وذلك الإغراء بالعداوة وهذا الإلقاء للبغضاء والتناحر هو من سنخ تقليب القلوب، وقد تمّ على اليد الخفيّة للخالق المتعالي. والطلب من اللّه‏ بالتصرّف في القلب نحو الطاعة وتثبيته على التوحيد إنّما هو من جهة أنّ السيطرة على القلب إنّما هي بمشيئة اللّه‏ فقط.

     خامساً: يبيّن القرآن الحكيم سيرة وسنّة أنبياء اللّه‏ وأوليائه، وذلك كي تتأسّى بهم الأُمّة الإسلاميّة، فتنجو بذلك التأسّي المفيد من آفات الإفراط ولَسَعات التفريط. كما أنّه يستعرض أوصاف الجنّة وأهلها، كي يشوّق المجتمع المتديّن إليها ويجعلهم يتصرّفون في الدنيا بطريقة أهل الجنّة: « وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ »[15]، « لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأثِيمٌ »[16]، ويسعى المؤمنون في الدنيا أن لا يكونوا من أهل اللغو والذنوب، مثلما يسعى الحجيج والمعتمرون سعياً حثيثاً كي يصونوا أنفسهم عن اللغو والإثم والذنب، بل عن أيّ خطأ فكري وخطيئة عمليّة، وأهل الإيمان في الدنيا لا يكتفون بالسعي إلى عدم الوقوع في اللغو، بل إنّهم لو شاهدوا أثراً منه ابتعدوا عنه: « وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ »[17]، « وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً »[18]، كما أنّهم يسألون اللّه‏ قائلين: « ربَّـنَا اغْفِرْ لَـنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَـقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُـلُوبِنَا غلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا ربَّـنَا إنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ »[19].

    وعلى هذا، فأجواء الجنّة وسيرة أهلها هي الغاية المنشودة لأهل الإيمان. وهذا النوع من الجمل الخبريّة يمكن أن يكون وارداً بمعنى الإنشاء بالنسبة للبعض، كما يمكن أن يكون بعضها وارداً بلسان الدعاء والإنشاء.

     ولا بدّ من التنبيه إلى أنّ السرّ في وصف سلوك أهل النار وبيان وضع جهنّم إنّما هو لاجتناب طريقة وأُسلوب المجرمين من أهل النار، والنجاة من السقوط في مهالك جهنّم، وكي لا يتكلّم الإنسان بكلام أهل الجنّة في حين يكون تفكيره مشابهاً لتفكير أهل النار، فهو يتمنّى الصلاح وسلوكه طلاح، وإلاّ فلا يستبعد ـ  معاذ اللّه‏  ـ أن يجابه أمثال هؤلاء يوماً يقول اللّه‏ في وصفه: « فَضُرِبَ بَـيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ »[20].

    إنّ مَن يدّعون الوحدة ويقرعون طبول الكثرة والشقاق، وينادون بالاتّحاد مع حملهم رايات الاختلاف، إذا طالعوا الآيات والأحاديث النورانيّة الداعية للوحدة من جهة، وشاهدوا الآثار المباركة لوحدة الحجيج والمعتمرين والمآثر الكريمة لاتّحاد الطائفين والعاكفين في عرصات الوحي من جهةٍ أُخرى، فسوف يعيدون التفكير في سرائر أنفسهم ويدركون حسنات الائتلاف ويصونون أنفسهم من سيّئات الاختلاف، وهذا هو الصراط المستقيم الذي يطلبه المصلّون من اللّه‏ في صلواتهم. إنّ الإنسان الكامل هو في متن الصراط المستقيم: « إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ »[21]، واتّباعه هو السير على ذلك الصراط المستقيم.

     سادساً: إنّ عمليّة الحجّ والعمرة تشابه البرنامج الموسمي لصوم الشهر المبارك وتعاليم الأوقات المعيّنة للاعتكاف والمرابطة، وكلّها تشترك في كونها فترة قصيرة للامتحان والتعليم الإلهي تهدف إلى تزويد الإنسان بالقدرة على تطبيق التعاليم الدينيّة في جميع الأزمنة والأمكنة.

     وأوحدٌ من سالكي درب الوصال والسائرين في أيمن الوديان ـ  لا وادي الأمان  ـ وأهل نداء ونجوى طور سيناء، إنّما هو دائم المراقبة للنفس، كما يقول أمير موحّدي عالم التوحيد عليه السلام: «هي نفسي أُروّضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر»[22] أي أنّ رياضتي بالتقوى هي كالدَين المستوعب الشامل الذي يبسط تأثيره على جميع أعمالي، كما وصف بعض تلامذة مدرسته التربويّة عندما قال عنه: «كان لي في ما مضى أخٌ في اللّه‏، وكان يُعظِّمه في عَيني صِغَر الدنيا في عينه، وكان خارجاً من سلطان بطنه»[23] وهؤلاء هم القدر الأوّل من سماء الديانة والتقوى.

     أمّا الأوساط من أهل الإيمان فهم من خلال الامتحان والتعليم المقطعي الذي يوفّره لهم الحجّ والعمرة والاعتكاف وصوم الشهر المبارك، يستمدّون من نفحات الخالق الموسميّة ما يوفّر لهم زاد الأيّام القادمة إذا لم يغفلوا عنها.

     إنّ اغتنام هذه الفترة الذهبيّة للإحرام والفرصة الثمينة للتواجد على أرض الحرم في هذه البرهة القصيرة يوفّر منافع ملكوتيّة كافية لحلّ مشاكل فترة العام الكامل في أيّ قارّةٍ من قارّات الكرة الأرضيّة الخمس، وإيصال الصحوة الإسلاميّة في الشرق الأوسط إلى أهدافها السامية.

     والنقطة التي يجب الالتفات إليها في الكلام النوراني لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام هي الخروج من أيّ شيء يمكن أن يمثّل أشواكاً في درب الوصال؛ لأنّ تعبير الخروج من سيطرة البطن كالتعبير عن أكل المال بالباطل في عبارة « لا تَأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ »[24]، والمقصود منها جميع الحقوق، ولا تختصّ بالأكل فقط، إذ لمّا كان الأكل هو أهمّ أسباب الحياة صار محوراً للحكم. فالإنسان الذي يحرّر نفسه من أيّ عفطة عنز ومن أيّ نوعٍ من السلع الزائلة يكون إنساناً كبيراً في نظر ملكوت عليّ المعصوم وعليّ الوليّ وعليّ الإمام عليه آلاف التحيّة والثناء.

     إنّ أيّام الحجّ والعمرة هي أثمن الفرص لنيل هذه المنزلة الرفيعة والمصاحبة المنيعة، ومن الواضح أنّ منظر الإمام عليّ عليه السلام هو نفس منظر سائر المعصومين عليهم السلام ممّن تواجدوا في موقع المباهلة وساحة التطهير وميدان الحجّيّة الإلهيّة إلى خاتم الأئمّة المهدي الموجود الموعود عجّل اللّه‏ تعالى فرجه الشريف.

     سابعاً: مثلما تمثّل تكبيرة الإحرام تلبيةً لجميع أحكام الصلاة وحِكَمها، وكما تعتبر نيّة الصوم استجابةً لجميع أوامر الصوم، كذلك تعدّ تلبية الحجّ والعمرة هي الأُخرى خضوعاً لجميع قواعد الحجّ وقوانين العمرة. وأهمّ قانون في هذين العملين العباديّين هو انسجام الحجّاج والمعتمرين في جميع مناسكهم. ويمكن ملاحظة تشابه قوانين هذين المنسكين الإلهيّين الخاصّين وانسجامها من بداية الميقات إلى انتهاء الحلق والتقصير وطواف النساء.

     إنّ جمال الحجّ وجلال العمرة ـ وعظمة تلك وشوكة هذه ـ يذكّران الإنسان بأهوال يوم القيامة، كما يعلّمانه ويدرّبانه على ميادين السياسة والمدنيّة والجمهوريّة الدينيّة كي لا يصير عقبةً في طريق غيره في الحياة الدنيا، فضلاً عن تخبّطه هو في خطواتٍ عشواء، على العكس من أهل النفاق والشقاق الذين يبتعدون عن الحقّ وينهون الغير عنه أيضاً: « وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأوْنَ عَنْهُ »[25]؛ لأنّ مثل هذا الحاجّ والمعتمر يتّبع في مناسكه أُسوة جميع السالكين لطريق الوحي ومسلك الإلهام، أي الرسول الأعظم صلّى اللّه‏ عليه وآله الذي قال اللّه‏ تعالى عنه « لَـقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّه‏ِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ »[26]، وهو القائل: « خذوا عنّي مناسككم »[27]. وذلك الرسول صلّى اللّه‏ عليه وآله كجدّه العظيم نبيّ اللّه‏ إبراهيم الخليل وإسماعيل الذبيح اللذين تلقّيا مناسكهما من اللّه‏ سبحانه بالإرائة الإلهيّة: « وَأرِنَا مَنَاسِكَنَا »[28].

    إنّ العناصر المحوريّة لخطب ونداءات خاتم النبوّة صلّى اللّه‏ عليه وآله هي من أفضل التعاليم العالميّة لهذا النبيّ، وهي التي أوردها في موسم الحجّ كي يتزوّد بها العاكفون والطائفون، وتلبية المحرمين هي استجابة لهذا النوع من المعارف أيضاً؛ إذ لا وجود لمكّة من دون المدينة، مثلما لا يمكن وجود القرآن معزولاً عن العترة؛ فالتشرّف بزيارة المدينة وملاقاة الإمام عليه السلام في زمان حضوره أو ظهوره، والاستفادة من ذلك الحضور أو هذا الظهور هو المتمّم للحجّ والمكمّل للعمرة.

     وعلى هذا يكون مضمون التلبية استجابة لتیار النبوّة والولاية والإمامة والعصمة وحجّيّة أهل بيت الوحي والإلهام عليهم السلام؛ لأنّ هؤلاء أساس الدين وعماد اليقين كما وصفهم الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في بيانه النورانيّ.

     لقد وصف أمير المؤمنين التحام هذين الثَقَلَين اللذين هما ميراث النبوّة الخالد ـ  أي القرآن والعترة  ـ في كلامه النورانيّ عند وصيّته، حيث قال: «أمّا وصيّتي: فاللّه‏، لا تشركوا به شيئاً، ومحمّداً صلّى اللّه‏ عليه وآله، فلا تضيِّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين»[29]. ومن الواضح أنّ السنّة النبويّة الواردة عن طريق العترة العلويّة والفاطميّة ما فتئت مصونة؛ لأنّ «أهل البيت أدرى بما في البيت».

     ثامناً: إنّ الحياة الدنيا لا يمكن تحقّقها دون تنسيق جمعيّ ونظام اجتماعيّ، خلافاً للحياة الآخرة التي يكون محورها فرديّاً، على الرغم من اجتماع الكلّ: « قُلْ إنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ »[30]؛ إذ لا يحكم في ذلك اليوم قانون اقتصاديّ، ولا أواصر عاطفيّة واجتماعيّة: « لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ »[31].

    كلّ عقيدة لها معيارها الخاصّ للوحدة، وهو الذي يوحّد أتباعها في مدار وحدته. ومدار الوحدة الوحيد في العقيدة الإسلاميّة هو توحيد اللّه‏ والأسماء الحسنى والصفات العليا للذات الأحديّة، المتجلّية في القرآن والعترة، والتي لا يجوز لأيّ فردٍ أن (يفذّ) أو (يشذّ) عنها؛ و (الفاذّ) هو الشخص الذي لم يدخل في الأُمّة الإسلاميّة أصلاً، أمّا (الشاذّ) فهو الذي خرج منها وانفصل عنها بعد دخوله فيها[32]. وما قيل عن مضارّ الشذوذ وأُشير إليه في عبارة «والزموا السواد الأعظم فإنّ يد اللّه‏ مع الجماعة، وإيّاكم والفُرقة فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب. ألا مَن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه»[33] ينطبق على الفذّ والانفراد والانعزال الابتدائي.

    وأسباب الانعزال عن المجتمع والانفراد عن الأُمّة الإسلاميّة عديدة، والسبب المهمّ منها هو الابتعاد عن النواة المركزيّة للعدل المعقول والأُسلوب المقبول في جميع المجالات. فالإفراط والتفريط والتعصّب الفكري وانعدام الحافز والأنانيّة والعبث وأمثال ذلك كلّها تساعد على الانفصال عن المجتمع.

     إنّ ما يستنكره البعض ـ  بحجّة اتّباع السلف الصالح ونتيجة عدم تمييزهم الصحيح بين التوحيد والشرك ـ من كلّ أشكال التوسّل والاستشفاع والتماس الدعاء والمساعدة من مظاهر الفيض ومجاري الفوز الربّاني في مقام الفعل الإلهي ـ لا الذات، ولا مقام أوصاف الذات ـ فيشهرون خنجر التكفير ـ الذي ربما تجسّد سلاحاً حيناً وفتوى حيناً آخر ـ ويطردون الفرد أو المجموعة من كيان المجتمع الديني، ويسفكون دماء الأبرياء ويقعون في شباك أحابيل الصهاينة، ويصيرون مطيّة للاستكبار مأجورين أو متطوّعين، ما هو إلاّ من هذا القبيل الذي مهّد له الجهل العلمي أو الجهالة العمليّة.

     إنّ وقوف الجميع بهيئةٍ واحدة أمام (قبلة) واحدة، وطوافهم حول محور (مطاف) مشترك، وسعيهم في (مسعى) واحد، وأمثال ذلك، هي من مآثر الحجّ وآثار العمرة التي تلعب دوراً هامّاً في تحقيق الوحدة واجتناب التفرقة، وقد کانت ولا تزال لها آثارها البارزة في امتثال المسلمين لأوامر التعايش السلمي واجتناب الطرد والتكفير والإهانة.

     تاسعاً: إنّ دعوة الحجّ ورسالة العمرة وتعاليم الإحرام وامتحان موطن الوحي، هي التعرّف على ثلاثة أبعاد اجتماعيّة وثلاثة مدياتٍ من الأدب الاجتماعي، وهي التي يوليها الدين الإلهي عناية خاصّة:

     الأوّل: البعد الإسلامی باعتباره حیّز الدین الحق.  و یجب في هذا البعد المحلي و القومي تطبیق الأحکام الخاصة بصورة کلیة و دون استثناء. وإن كانت موارد الاضطرار التي تباح فيها المحظورات لها أحكامها الخاصّة بها.

     الذین یتواجدون في هذا البُعد هم المسلمون، والمبدأ الذي یسودهم هو مضمون عبارة « إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ »[34]. ومن مستلزمات هذا البعد رعاية القوانين الإسلاميّة الخاصّة كحرمة الدم والمال والعرض وأداء الجمعة والجماعة والاشتراك في الحجّ والعمرة وسائر المسائل الإسلاميّة، وإن كان كلّ مذهبٍ من المذاهب المعروفة مسؤول عن أحكامه الخاصّة.

     ويجب في هذا البعد رعاية حرمة سبّ صحابة الرسول الأكرم صلّى اللّه‏ عليه وآله، وحرمة سبّ مقدّسات الآخر، ولزوم الاحترام المتبادل لآداب وسنن وتقاليد الآخرين، وذلك حذراً من حصول الفوضى والوقاية من وقوع الشجار والصراع بدلاً من النقاش العلمي.

     الثاني: البعد التوحيدي والوحيوي باعتباره حیّز الكتب الإلهيّة، حيث تكون الأحكام المرعيّة في هذا البعد المحلّي والإقليمي هي تلك الخاصّة بالمعتقدين بالتوحيد والنبوّة، والمبدأ السائد عليهم هو مضمون آية: « قُلْ يَا أهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ألاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللّه‏َ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّه‏ِ »[35].

    إنّ إلغاء نظام الأسياد والعبيد في البعد الثاني يبيّن ضرورة ذلك في البعد الأوّل. ولزوم الاحترام المتبادل للمقدّسات وحرمة انتهاكها من الأُمور المبرهنة التي سوف ترد في البعد الثالث.

     الثالث: البعد الإنساني ورعاية حقوق الإنسان باعتبارها من مستلزمات الحضارة البشريّة، حيث يجب في هذا البعد الإنساني العالمي رعاية الموازين الإنسانيّة ومبادئ حقوق الإنسان بصرف النظر عن الدين والعقيدة الإلهيّة أو الإلحاديّة، والمبدأ السائد في هذا البعد هو مضمون آية: « لا يَـنْهَاكُمُ اللّه‏ُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُـقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَـبَـرُّوهُمْ وَتُـقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللّه‏َ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ »[36]، بحيث لا يكون لأيّ فرد أو شعب أفضليّة على أيّ فردٍ أو شعبٍ آخر، ویُصار إلى إلغاء سيطرة أي فرد أو جماعة على أيّ شخص أو جماعةٍ أُخرى وعدم الاعتراف بها.

     إنّ الشعب المسالم وغير المعتدي تشمله بركات العدل الإلهي، وعلى المسلمين التعامل معهم وفقاً لمبادئ العدل والقسط. ويمكن إدراك إلهيّة هذا المطلب بالتعامل الصحيح معه بأبعاده الدنيويّة والأُخرويّة، وهو خارج عن حدود مسؤوليّة الآخرين، خصوصاً ما يتعلّق بيوم المعاد حيث يكون هناك حساب خاصّ لكلّ مثقال ذرّة، ولمّا كانت كلّ أُمّة لها مقدّساتها الخاصّة المحترمة لديها، ولا فرق في ذلك بين الموحّد والملحد، لذا يجب الامتناع عن سبّ تلك المقدّسات وانتهاكها؛ إذ إضافة إلى ما في ذلك من الأذى الروحي والعدوان، فإنّه يساهم في تأزيم المجتمع من الناحية القانونيّة، حتّى نهى القرآن المجيد عنه: « وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه‏ِ فَيَسُبُّوا اللّه‏َ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ اُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ »[37]، والسرّ في كون سبّ اللّه‏ بغير علم هو أنّ هؤلاء في عقيدتهم الفاسدة كانوا يؤمنون باللّه‏، وإنّما يعبدون تلك الأصنام لاعتقادهم بأنّ الأصنام والأوثان تقرّب أهل الشرك إلى اللّه‏، بل تشفع لهم عنده. وعلى أيّ حال فهم لهم تبريراتهم الخاطئة لسبّهم اللّه‏ سبحانه.

     وما ورد في ذيل الآية المذكورة يتضمّن قانوناً عامّاً يشمل الأبعاد الثلاث، وهو أنّه لا يجوز لأحد أن يهين مقدّسات شخص آخر، وذلك كي لا يردّ عليه بسبّ مقدّسات أهل الإيمان.

     إنّ محاربة القبيح والنهي عن المنكر يجب أن تتمّ بالأُسلوب الحَسَن والسبيل المعروف، وإذا كان النهي عن المنكر بطريقةٍ منكرة فيجب الوقوف بوجه هذا النهي، ورفضه كبقيّة المنكرات الأُخرى. كما أنّ الدعوة إلى الحقّ والصدق والخير والحَسَن يجب أن تكون بوسيلة تناسب الغاية؛ لأنّ الغاية الجيّدة لن تبرّر الوسيلة السيّئة بأيّ حالٍ من الأحوال، والأمر بالمعروف إذا كان يتمّ بوسيلة منكرة فيجب النهي عنه، إذ بين الوسيلة والغاية علاقة حقيقيّة ورابطة واقعيّة، بحيث لا يمكن أن يوصل الطريق المستقيم إلى الهدف الباطل، والطريق المنحرف لا يمكن أن يوصل إلى الغاية الحقّة أبداً: « مَن حاول أمراً بمعصية اللّه‏ كان أفْوَت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر »[38].

    إنّ الإساءة إلى مقدّسات أيّ شعبٍ ـ حتّى وإن كان من أتباع الباطل ـ هو عمل منكر ينهى اللّه‏ عنه. وخلاصة الكلام هي:

     1 ـ إنّ الدين العالمي له خطّة شاملة.

     2 ـ إنّ أهمّ قانون ديني عامّ هو رعاية القوانين والأعراف الدوليّة.

     3 ـ من أهمّ الآداب العامّة والإنسانيّة حفظ الكرامة الإنسانيّة والامتناع عن إهانة مقدّسات أتباع المذاهب المختلفة.

     4 ـ إنّ سبّ الصحابة، أو إهانة مقدّسات الشيعة أو السنّة، أو الاعتداء بتحقير معتقدات أيٍّ من المجموعتين والإساءة إليها، هو من الأُمور المحرّمة التي تزرع الاختلاف وتشعل نار التفرقة والشقاق وتقوّض وتهدم أُسس وحدة الأُمّة الإسلاميّة، وهو من الذنوب الكبيرة التي يجب على الجميع ـ  خصوصاً الحجّاج المحترمون والمعتمرون الأعزّاء  ـ الامتناع عنها منعاً باتّاً.

     5 ـ يجب أن يكون الوعي بأهمّيّة الوحدة وضرورتها وحرمة الاختلاف الذي يجرّ إلى الفساد ويزرع الفتنة، والامتناع عن إهانة مقدّسات أيّ ملّة ونحلة هو جزءٌ من ثمار سفركم الملكوتي، وذلك كي لا يهبّ في ربوع العالم الإسلامي سوى نسيم الوحدة ولا يُستشمّ إلاّ عطر الاتّحاد؛ فإضافة إلى ما في الاختلاف من زوال للعزّة الذاتيّة واستنزاف القوّة في الداخل الإسلامي، فإنّه يطمّع العدوّ الدموي الذي يستغل ضعف القوّة الدفاعيّة فيخرّب المراكز الدينيّة ويدفع بالمجتمع إلى الضياع: « وَلَوْلا دَفْعُ اللّه‏ِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّه‏ِ كَثِيراً »[39].

    عاشراً: تشبه مناسك الحجّ والعمرة سائر العبادات، فهي تمارس أحياناً خوفاً من النار، وأحياناً أُخرى شوقاً إلى الجنّة، مثلما تؤدّى أيضاً في بعض الأحيان من منطلق المحبّة الخالصة للخالق وشكراً لنعمته وحفظاً لاسمه وذكره.

     وكلّ نوعٍ من هذه الأنواع يطابق ظهوراً اسميّاً من أسماء اللّه‏ الحسنى، ومعنى الإخلاص في هذا المورد ليس صيانة النفس من الرياء و الابتعاد عن الصیت و الشهرة؛ لأنّ الإخلاص بهذا المعنى يقع في مرتبة أوّل وأبسط شروط التعبّد، بل معناه في هذا الموطن الامتناع عن طلب شيء سوى ذكر الحقّ، والتنزّه عن طلب شيء آخر سوى شهوده، والنزاهة عن الطمع بشيء سوى ولائه ومحبّته وأُنسه:

أمرتني إمّا أن أجلس في حزنك و غمّك، أو أن أترك الروح

سمعاً وطاعة يا حبيب الروح، ها أنا ذا جالسٌ وتارك[40]

    وتتنوّع البشارات القرآنيّة طبقاً لتنوّع درجات عبادة العبيد:

     فبعض يبشَّرون بالجنّة الجسمانيّة، وهي الجنّة التي يفوز بها جميع أهل الجنّة، وليس هناك أحدٌ من أهل الجنّة محروم منها.

     وبعضٌ يبشّرون ـ  علاوةً على الجنّة الجسمانيّة  ـ بالحضور الرحماني أيضاً: « إنَّ المُـتَّـقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيك مُقْتَدِرٍ »[41].

    وبعضٌ يبشّرون ـ  علاوةً على الجنّة الجسمانيّة والرحمة الخاصّة  ـ بالرضوان الإلهي الذي يندرج في منزلةٍ رفيعةٍ جدّاً: « يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ »[42].

    وهكذا تتنوّع البشارات الإلهيّة لضيوف الرحمن طبقاً لمعرفتهم وخلوص نواياهم في أداء المناسك. ولمّا كان تفاوت البشارات يعتمد على تمايز درجات النعمة المبشّر بها، لذا يمكن اكتشاف أهمّيّة مراتب الحجّ والعمرة والطواف والعكوف من خلال تفاوت البشارات، مثلما أنّ درجات البشارات الواردة على لسان الوحي لأولياء اللّه‏ أو الأُمّة التوحيديّة يتمثّل بتمايز النعم الإلهيّة، فحيناً تكون البشارة للسيّدة مريم عليها السلام ولادة السيّد المسيح عليه السلام: « إذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ اللّه‏َ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ »[43]، وحيناً تكون البشارة بخاتم الأنبياء الرسول الأكرم صلّى اللّه‏ عليه وآله: « وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ »[44].

    وأفضل البشارات هي شهود أسماء اللّه‏ الحسنى، وهي جائزة الحجيج المخلصين، والمعتمرين المنزّهين عن الخوف والطمع، والعاكفين المبرّأين من الحقد والحبّ، والطائفين المتحرّرين من الخوف والرجاء لما دون الحقّ.

لو جاؤوا بجميع مفاتيح أبواب الجنّة

لما رضيتْ نفسُ العاشق بدخول جنّة رضوان[45]

    فيا أيّها الحجيج والمعتمرون ! سيروا في مهبط الوحي بقداسة وخشوع، ولتلهج ألسنتكم بذكر اللّه‏، وحاذروا غاية الحذر أن تشغلوا أنفسكم بغير الحقّ؛ فقد كان هذا المعهد ـ  وما زال  ـ حافلاً بالأنبياء والأولياء من آدم إلى خاتم الأنبياء عليهم السلام، ومن خاتم الأنبياء إلى خاتم الأئمّة المهدي الموجود الموعود عجّل اللّه‏ تعالى فرجه الشريف، وعليه خطَوا خطَواتهم ويخطون، وأنتم الآن على آثار أقدامهم تسيرون، وفي ممشى تلك الذوات القدسيّة تمشون، وفي أجواء ـ  كان ولا يزال  ـ يملؤها طنين تلبيتهم تلبّون:

سأمسح کل تراب مکّة بناظريّ

 علی أمل أن تکون وضعت قدمك في موضع منها[46]

    ادعوا لتعجيل ظهور ذخيرة كلّ الأنبياء والأولياء، المنادي بنداء: «أنا بقيّة اللّه‏»[47]، المقيم لأمَت واعوجاج جميع مستكبري العالم، وليحتشد الملتزمون بالزهد في درجات هذه الدنيا وآناتها وليقتدوا بساحة المعاد وميدان القيامة الذي لا حاكم فيه إلاّ العدل، ويحرّروا الشعوب التي أنهكها طغيان الطغاة، وليحيوا معارف القرآن الكامنة وسنّة المعصومين، ويظهروا القبور المخفيّة لحجج اللّه‏ وخصوصاً السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام.

     إنّ حجّ العاشقين هو المصداق البارز للحديث النوراني: «أفضل الناس مَن عشق العبادة فعانقها، وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده»[48].

أيّها الحاجّ، إذا تركَتْ نيران العشق أثرها فيك

فمن مفاخر العبد أن يكون موسوماً بسِمة الربّ[49]

    عند ذلك يترنّم كما ترنّم الشاعر:

لا أسير إلّا نحو دیار الحبیب

 و لا أضع رأسی إلّا علی أقدامه[50]

 

    ومع إن شهود صاحب البيت والمضيِّف الأصلي من الأُمور الصعبة بل المستصعبة، و لکن:

أنا موسى طور العشق في وادي التمنّي

صرعَتْني (لن تراني) کالآلاف من أمثالي[51]

    وأيّام الإحرام هي فرصة كسب الأرباح وجَني المنافع، لكن:

يريد كلَّ النفس من عاشقه المشتاق

وليس في ميزانه أثقال صغيرة[52]

 

    إلهنا ! احفظ النظام الإسلامي من كلّ أذى حتّى ظهور صاحبه الأصلي ! واحفظ وحدة المسلمين والصحوة الإسلاميّة في الشرق الأوسط تحت ظلّ خاتم الأئمّة عجّل اللّه‏ تعالى فرجه من كلّ مكروه، وعجّل في ظهور الإمام المهدي الموجود الموعود، وأرجع الحجّاج والمعتمرين والعاكفين والطائفين إلى أوطانهم سالمين غانمين بقبول أعمالهم واستجابة أدعيتهم، واحفظ الكعبة ـ التي قال الإمام الصادق عليه السلام عنها: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»[53] ـ من كلّ سوء.

    والسلام عليكم ورحمة اللّه‏ وبركاته.

الجوادي الآملي

ذو القعدة 1434 هجريّة

 

[1]  .  ابن يمين.

 

[2]  .  سورة القدر، الآية 3.

 

[3]  .  سورة البقرة، الآية 269.

 

[4]  .  سورة الحجّ، الآية 27.

 

[5]  .  سورة الكهف، الآية 34.

 

[6]  .  نهج البلاغة، الخطبة 1.

 

[7]  .  سورة المائدة، الآية 97.

 

[8]  .  الأمالي، الشريف المرتضى، ج 2، ص 2.

 

[9]  .  الأمالي، الشريف المرتضى، ج 2، ص 2.

 

[10]  .  الأمالي، الشريف المرتضى، ج 2، ص 2.

 

[11]  .  الصحيفة السجّاديّة، الدعاء 13.

 

[12]  .  سورة آل عمران، الآية 103.

 

[13]  .  سورة المائدة، الآية 14.

 

[14]  .  سورة المائدة، الآية 64.

 

[15]  .  سورة الحجر، الآية 47.

 

[16]  .  سورة الطور، الآية 23.

 

[17]  .  سورة المؤمنون، الآية 3.

 

[18]  .  سورة الفرقان، الآية 72.

 

[19]  .  سورة الحشر، الآية 10.

 

[20]  .  سورة الحديد، الآية 13.

 

[21]  .  سورة يس، الآيتان 3 و  4.

 

[22]  .  نهج البلاغة، الرسالة 45.

 

[23]  .  نهج البلاغة، الحكمة 289.

 

[24]  .  سورة البقرة، الآية 188؛ سورة النساء، الآية 29.

 

[25]  .  سورة الأنعام، الآية 26.

 

[26]  .  سورة الأحزاب، الآية 21.

 

[27]  .  الانتصار، الشريف المرتضى، ص 254.

 

[28]  .  سورة البقرة، الآية 128.

 

[29]  .  نهج البلاغة، الخطبة 149.

 

[30]  .  سورة الواقعة، الآيتان 49 و  50.

 

[31]  .  سورة البقرة، الآية 254.

 

[32]  .  مجمع البحرين، ج 3، ص 183.

 

[33]  .  نهج البلاغة، الخطبة 127.

 

[34]  .  سورة الحجرات، الآية 10.

 

[35]  .  سورة آل عمران، الآية 64.

 

[36]  .  سورة الممتحنة، الآية 8 .

 

[37]  .  سورة الأنعام، الآية 108.

 

[38]  .  الكافي، ج 2، ص 373.

 

[39]  .  سورة الحجّ، الآية 40.

 

[40]  .  ديوان سعدي بالفارسيّة، الغزل 401.

 

[41]  .  سورة القمر، الآيتان 54 و  55.

 

[42]  .  سورة التوبة، الآية 21.

 

[43]  .  سورة آل عمران، الآية 45.

 

[44]  .  سورة الصفّ، الآية 6.

 

[45]  .  ديوان سعدي بالفارسيّة، الغزل 265.

 

[46]  .  راجع: ديوان سعدي بالفارسيّة، الغزل 369.

 

[47]  .  كمال الدين، ج 1، ص 331.

 

[48]  .  الكافي، ج 2، ص 83 .

 

[49]  .  راجع: ديوان سعدي بالفارسيّة، الغزل 295.

 

[50]  .  ديوان سعدي بالفارسيّة، الغزل 300.

 

[51]  .  ديوان سعدي بالفارسيّة، الغزل 389.

 

[52]  .  ديوان سعدي بالفارسيّة،  الغزل 479.

 

[53]  .  الكافي، ج 4، ص 271


دیدگاه شما درباره این مطلب
أضف تعليقات