اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
«الحمد لله رب العالمين و صلّي الله علي جميع الأنبياء و المرسلين و الأئمة الهداة المهديّين سيّما خاتم الأنبياء و خاتم الأوصياء عليهما آلاف التحية و الثناء بهم نتولّيٰ و من أعدائهم نتبرّء الي الله».
أيّها الحجاج و المعتمرون الكرام٬ تقبّل الله منكم جميعاً حجّكم و عمرتكم و إحرامكم و زيارتكم و طوافكم إن شاء الله٬و تفضّل عليكم بأكرم ضيافة٬ يا من تجسّدون بحقّ مقولة «ضيوف الرحمن» أيّها العلويون و الحسنيون و الحسينيون٬ أيّها الصادقيون و الباقريون و المهدويون٬ يا أتباع القرآن و العترة! كلكم يعلم فضل الكعبة المشرّفة على سائر الأبنية الأخرى٬ يكفيها فخراً و عظمة ما قيل في حقّها بأنّ الدين باق ببقائها و ما دام الدين باق حتى يوم القيامة٬ فالكعبة المشرفة باقية معه حتى ذلك الحين البيت الحرام في البناء أشبه بآيات القرآن الكريم في الكلام ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ لمّا عزم إبرهه الحبشي على تدنيس حرمة البيت العتيق٬ أرسل عليه رب البيت طيراً أبابيل لتطوى صفحته من الوجود و إلى الأبد.
السرّ في قدسية البيت الحرام و أبديته - كما هو شأن كتاب الله - يعود إلى أنّه رُفع بأيدي أنبياء أطهار٬ رُفع بأيدي خليل الحق و ذبيحه٬ و سبقهما إلى ذلك أبوهما آدم ﴿وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾.[1]
كان هذان النبيان العظيمان يرفعان قواعد البيت و هما يلهجان بـ﴿تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ كلكم يعلم بأنّ القرآن الكريم هو حبل الله المتين المتدلي٬ لا الساقط٬ من لدن الذات الإلهية المقدسة إلى الأرض فلم يُنزل الله القرآن كما يُنزل المطر فقطرات المطر تسقط من علٍ على الأرض سقوطاً بنحو التجافي و الله هو الذي أنزلها من علٍ إلى الأرض أمّا القرآن فنزوله بنحو التدلّي الرفيق و هو ما يسمّى التجلي الرقيق
إنّه حبل الله٬ فمن كان في حضرة القرآن فإنّه ممسكٌ بهذا الحبل الإلهي و كان ممّن ﴿وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾[2] لأنّ طرفه الأعلى في متناول الله تبارك و تعالى٬ فكأنّه يضع يده في يد الغيب الإلهية للبيعة. قيل في من يستلم «الحجر الأسود» كمن يبايع الذات الإلهية المقدسة و يضع يده في يد الغيب الإلهية لأنّ الكعبة نزلت بنحو التدلّي لا بنحو الإسقاط. و قد سُئل الإمام المعصوم (عليه السلام) لم سمّيت الكعبة كعبة؟ قال:
لأنّها مربعة٬ فقيل له: و لم صارت مربعة؟ قال لأنّها بحذاء البيت المعمور و هو مربع٬ فقيل له: و لم صار البيت المعمور مربعاً؟ قال لأنّه بحذاء العرش و هو مربع قال: «لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ أَرْبَعٌ»
و هي: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اللَّهُ أَكْبَر» هذه الكلمات الأربع جزء منها تربيع٬ و جزء تثليث و جزء تثنية و ختامها كلمة التوحيد «لا إله إلّا الله» تلك الكلمات الثلاث و الذكر تختتم بالتوحيد أيضاً. ليس «الله أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْء»، بل «الله أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَف» و هو منزّه من كل شريك الحمد كلّه و الثناء لله وحده: ﴿ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه﴾ لا جرم أنّ الحمد له. فهذه الأذكار الثلاثة تختتم بذكر واحد و هو «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ».
لقد أظهر الله تبارك و تعالى وحدانيته في صورة العرش ثم في صورة البيت المعمور ثم البيت المعمور فالكعبة المشرّفة. لقد نزل فيض الكلمات الأربع في صورة جدران الكعبة الأربعة٬ كما أنّ القرآن كان في حضرة القدس الإلهي و نزل من لدن «علي حكيم» فتدلى ثم تجلّى في صورة «عربي مبين» يقول عزّ من قائل في مستهل سورة الزخرف المباركة ﴿إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عربيا﴾ ثم يعقبها بالآية الشريفة: ﴿وَ إِنَّهُ في أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكيمٌ﴾ فالقرآن هو حبل الله المتين٬
من فوقه «عليّ حكيم» و من تحته «عربي مبين» و كذلك هي الكعبة المشرّفة٬ من فوقها تسبيحات أربعة٬ و من تحتها البيت المعمور المربع و من يستلم «الحجر الأسود» فكأنّه بايع الله و وضع يده في يد الغيب الإلهية فنزول الكعبة هو من عند العرش و بنحو التجلّي لا التجافي٬
أي حينما تكون في السماء فهي على الأرض أيضاً٬ و حينما تكون في الأرض فهي في السماء أيضاً؛ و لكن لكل مرحلة ما يناسبها عندما تجول في خاطر الفقيه أو الحكيم أو المفسر مسألة علمية عميقة و يدوّرها في ذهنه ثم ينزّلها في مخياله و يصيغها بقلمه أو لسانه في قالب عربي أو فارسي، ثم يشرع بالتدوين و الحديث٬ فينسج أفكاره في كتاب أو مقال٬ هذا الكتاب أو المقال هو رشحات مخياله و إرهاصات وجدانه و هذه الإرهاصات هي تنزيل لتلك الصورة العقلية و هو تنزيل بنحو التجلي لا التجافي٬
حينئذ يقول الحكيم أو الفقيه٬ لقد نطقت و كتبت عين ما نطقت به عاقلتي و كتبت على غرار الحبل المتين و بنحو التدلي لا الإسقاط. لذا٬ بالإمكان أن تستأنس بهذا البناء المربع المحدود للكعبة المشرّفة و أنت بجوارها٬ و تجلس على مائدة الله و تكون في ضيافته في هذه الدائرة٬ و أن تكون ضيف البيت المعمور٬ و تكون ضيف العرش من حيث أنّ «قَلْبَ الْمُؤْمِنِ عَرْشُ الرَّحْمَن»، و يمكن أن تسمو فوق العرش و تكون ضيف كلمات التوحيد و التسبيحات الأربعة.
فيما مضى كان العظماء إذا خطرت على قلبهم مسألة قالوا عنها «حكمة عرشية» لكون «قَلْبَ الْمُؤْمِنِ عَرْشُ الرَّحْمَن».
ثم صاروا يطلقون وصف «مطلب عرشي» على كل مسألة راقية و لم يكن العرف قبل ذلك أن يطلق هذا الوصف على كل من ألقى مطلباً راقياً حتى بالاقتباس من غيره بل ما كان يخطر بقلبه إنّما هو «قَلْبَ الْمُؤْمِنِ عَرْشُ الرَّحْمَن» و كان يستحق أن يكون مطلباً عرشياً
أيّها الحجاج و المعتمرون و المحرمون و الزائرون و الطائفون٬ يا من تتشرّفون بمجاورة الكعبة٬ تعلمون ما للبيت من قدسية خاصة٬فحياتنا كلّها تدور مداره
و تعلمون أيضاً أنّنا على مرّ سنوات العمر نلهج قائلين: «وَ الْكَعْبَةُ قِبْلَتِي»؛ بل إنّنا نتنفس بالكعبة٬ و نحيا بها هي وجهتنا في كل صلاة واجبة أو نافلة٬ و وجهتنا المستحبة عند النوم و وجهة مذابحنا فلا تحلّ ذبائحنا إلا باستقبالها نستقبلها عند الاحتضار٬ و نتوجه إليها في صلاة الميت٬ و مقابرنا موجّهة صوبها٬ و يحرم استقبال الكعبة و استدبارها عند قضاء الحاجة فالكعبة هي بوصلة شؤون حياتنا كافة٬ يستحب الجلوس صوبها٬ و قالوا أيضاً باستحباب أن يستقبلها المحتضر
فعندما نقول: «وَ الْكَعْبَةُ قِبْلَتِي»؛ إنّما نعني أنّنا نتنفس بها و نعيش بها و نموت بها و نحشر معها
نقل اسحاق بن عمار هذه الكلمات المضيئة عن الإمام المعصوم (عليه السلام): «مَنْ أَمَاطَ أَذًي عَنْ طَرِيقِ مَكَّةَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً وَ مَنْ كَتَبَ لَهُ حَسَنَةً لَمْ يُعَذِّبْهُ»، أي إنّ هذا الثواب لمن غسل طريق الكعبة و كنسها و أزال الأشواك عنها و رفع الموانع عن طريق الحجاج ليؤدّوا مناسكهم بسهولة و يسر في مكة لقد نقل المرحوم صاحب الوسائل هذه الرواية في باب الحج في الكتاب المذكور
و قال من مهّد طريق مكة٬ و أماط عنه التراب و الأشواك٬ كتب الله له حسنة و من كتب الله له حسنة٬ لن يعذّبه بعدها٬ هذا هو طريق مكة.
لا ينبغي لنا أن نصدّ عن الحج و الزيارة لا ينبغي لنا أن نعطي بيد الساسة ذرائع ليخلطوا قضايا السياسة بقضايا الحج و الزيارة فالحج له مكانته و المشاكل السياسية التي بين الدول ينبغي أن تحلّ في مكان آخر فالكلام النوراني للإمام (سلام الله عليه) «مَنْ أَمَاطَ أَذًي عَنْ طَرِيقِ مَكَّةَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً» صريح في بيان من مهّد طريق مكة
صريح في عدم جواز الصدّ عن طريق مكة لا يجوز أن يتقاطع طريق الحج و الزيارة مع طريق السياسة لكلّ طريق منفصل و لكل حساب مستقل فالساسة طريقهم منفصل٬ و الشرق منفصل عن الغرب
و كلنا أمل في أن تتحرّر الكعبة ذات يوم من هيمنة الغرباء و أن يدخل الصرورة إلى الكعبة طبقاً للاستحباب المؤكّد
ليتنا نبلغ مبلغاً يكون فيه هذا الباب مفتوحاً لتدخل منه جموع غفيرة و لا سيّما الصرورة و يلمسوا عن قرب هذه الضيافة و يدخلوا الأبواب و يخرجوا منها الواحد تلو الآخر
هذي تعاليمنا الدينية فالطواف حول الكعبة و زيارتها معتبر لدرجة إذا قصرت عنه جماعة وجب على حكام المسلمين و ولاة أمورهم أن يقوموا بتفويج عدد منهم إلى الديار المقدسة و على هذا المنوال تجري البعثة في الوقت الحاضر هناك وفرة من الحجيج٬ بفضل الله و منّه٬ و لولا ذلك لوجب على الوالي تفويج عدد من المسلمين إلى الكعبة لئلا تخلو من الطائفين
و على غرار ذلك تجري الأمور مع زيارة سيد الشهداء (صلوات الله و سلامه عليه) فتمتّعوا أيّها الحجاج و المعتمرون و الطائفون بالنصيب الأكبر من الثواب
لا تلهجوا و أنتم في داخل الكعبة المشرّفة و بجوارها٬ إلّا بذكر الحق و لا تنسوا تلاوة القرآن٬ ختمة واحدة على الأقل٬و أكثروا من الدعاء٬ فدعاؤكم مجاب إن شاء الله٬ ادعوا للمجتمع الإنساني و الإسلامي في مشارق الأرض و مغاربها
نسأل الله أن يتمّ الزائرون و الحجاج و المحرمون و المعتكفون مناسكهم كأحسن ما يليق بضيوف الرحمن
و أن يعودوا إلى أوطانهم سالمين غانمين
«غفر الله لنا و لکم و السلام عليکم و رحمة الله و برکاته»
[1]. سوره بقره، آيه127.
[2]. سوره آلعمران، آيه 103.