بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ وَإيّاهُ نَستعينُ
﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ ﴾[1].
الحمد لله المتعال حمداً أزليّاً لا يليق إلاّ به ؛ وتحيّة أبديّة للأنبياء الإلهيّين ، خصوصاً خاتم الأنبياء والمرسلين ، محمّد المصطفى ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) ؛ و سلام الله اللامتناهي على عترة طه و آل ياسين ، لا سيّما خاتم الأئمّة الميامين ، الإمام المهديّ الموجود الموعود ( عجّل الله تعالى فرجه الشريف ) ؛ إنّنا نتولّى هذه الذوات القدسيّة و نبرأ إلى الله من معانديهم الِّلداد ! سلامٌ من الله على ضيوف الرحمن من حجيج و معتمرين ، و تحيّة إلهيّة عطرة إلى قاصدي صاحب الكعبة و زوّار القبلة و المطاف . اليوم و قد لبّيتم نداء خليل الرحمن و أجبتم دعوة حبيب الله ، حريٌّ بكم الالتفات إلى عدد من المبادئ و الأصول الهامّة التي سنشير إليها في سياق النقاط التالية :
أوّلاً : إنّ ثمرة ضيافة الصائمين في شهر رمضان المبارك هي الارتقاء من حطيط النفس البهيميّة إلى ذروة الشبَه بالملائكة الروحانيّة ، المنزّهين عن الأكل و الشرب و جميع لوازمه[2] ، ولا شكّ في أنّ ثمرة ضيافة الطائفين و العاكفين في حرم الوحي هي التخلّق بأخلاق الملائكة . نعم ، لا يُتوخّى من مائدة الصوم و مأدبة الحجّ والعمرة شيء سوى التنزّه من السقوط في حضيض الطبيعة، و سعادة بلوغ ذرى ما وراء الطبيعة . إنّ هبوط الملائكة لا يكون إلاّ بإذنٍ من ربّ السّماء و إله الوحي : ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾[3] ، وأنّ مهبطهم هو أفئدة العاشقين الثابتين على طريق الدين : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ﴾[4] . و هكذا يسعى بعض ضيوف الرحمن إلى تطهير ساحة القلب من إغراءات التعلّق بالدنيا و بهارجها لتحلّ محلّها ملائكة العقل و العدل ، و يحاول البعض الآخر جاهداً أن يحرّر قلبه من سطوة الشيطان ليسلّم زمامه لملائكة الجمال و الجلال ؛ فكلّ فريقٍ يعزف نغمةً لنيل مبتغاه ، ففريق يعزف على وتر «إذا حضرت الملائكة ذهبت الشياطين»، وآخر يتغنّى بلحن «الشياطين تفرّ من مجالس تلاوة القرآن» و كلا الفريقان : ﴿ لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾[5] .
ثانياً : العنصر المحوريّ لجريان الحجّ و العمرة هو الالتفات التامّ إلى التوحيد و النبوّة و المعاد، واستحضار صورةٍ عمليّةٍ عن هذه الأصول الثلاثة ، إلى جانب العدل والإمامة وجميع الأعمال الواجبة و المستحبّة لهذا السَّفَر الرابع من الأسفار الأربعة ، أي السَّفَر من الخَلق إلى الخَلق بالحقّ ، بمعنى بدء هذا السير الملكوتيّ وانتهاؤه في ظلّ الفيض الإلهيّ الخاصّ . و يمكن مشاهدة مآثر الوحي و النبوّة في آثار خليل الله ( عليه السلام ) و حبيب الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) ؛ فذُكر إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) على أنّه إمام للنّاس في كلّ عصرٍ و مصرٍ : ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾[6]، فقام هذا الإمام العالميّ ببناء بيت الله بإذنٍ منه تعالى ليكون معبداً دائماً للجميع ، و التعابير القرآنيّة المنسجمة : ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾[7] ، ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ﴾[8] ، ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ ﴾[9] ، ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾[10] شاهدٌ واضح على صدق الأثر الخالد و الصرح المارد لهذا الإمام الهمام المبعوث إلى العالمين كافّة . و كفى بالمجتمع الإسلاميّ فخراً أنّه أمّة ذلك الإمام الهمام ، وكفى بأفراده عزّاً ورفعةً أن يكونوا محرزين لشرف البنوّة المعنوية لذلك الأب الروحانيّ أيضاً : ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ... ﴾[11] . إنّ اقتداء الأمّة بالإمام وتأسّي الأبناء بالأب من مقتضيات العقلانيّة ؛ ذلك أنّ أتْباعَ مدرسة هذا الإمام فقهاءٌ وعلماءٌ و أعداءه سفهاءٌ و بلهاءٌ : ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾[12] . ولا غرو أنّ التنسّك بالمناسك الإبراهيميّة طبقاً للتعاليم المحمّديّة لهو مؤشّر على منتهى الإفادة من العقل الذي هو: « ما عُبدَ بهِ الرّحمنُ و اكتُسبَ بهِ الجِنانَ »[13] .
ثالثاً : للمعرفة قعرٌ يسمّى المعرفة الحسّيّة أو التجربة الحسّيّة ، وسقفٌ يطلق عليه المعرفة الشهوديّة أو التجربة التجريديّة و الحضوريّة . وكما أنّ المعرفة الحسّيّة « تغيض » تارةً و « تزداد » أخرى ، كذلك هي المعرفة الشهوديّة التي « تنقبض » تارةً و « تنبسط » تارةً أخرى ، و ما ناله إمام أمّة الحجّ و العمرة خليل الرحمن هو معرفة شهوديّة واسعة استوعبت نظام الكون من أوّله إلى آخره : ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾[14] ؛ لأنّ الرؤية غير النظر ، كما أنّ الملكوت غير المُلك ؛ فنصيب الآخرين هو النظر إلى المُلك ، وحظّ إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) كان رؤية الملكوت . و يبدو أنّ أتباع هذا الإمام الهمام قد دُعوا إلى النظر في ملكوت السماوات و الأرض ، علّهم ينتهون إلى الرؤية : ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .... ﴾[15] . ولا ريب في أنّ رؤية ملكوت الكون يقترن بشهود يد الله الغيبية الذي بيده ملكوت كلّ شيء : ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾[16] ، و معرفة الملكوت معرفة صائبة لا تنفكّ عن العمل الصالح ، و أولى الثمار النافعة اليانعة لهكذا شهود هو تجنّب مودّة كلّ آفلٍ زائلٍ : ﴿ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾[17] ، و لا مِرية أنّ الدّنيا بكلّ زخارفها و بهارجها الزائفة متاع آفل ، و حبّها رأس كلّ زلّة فكريّة و خطيئة عمليّة : «حبُّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ»[18] .
رابعاً : إنّ النبيّ إبراهيم ( عليه السلام ) وإن كان قد طلب الإمامة لذرّيّته ، فضَمِن الله تعالى إجابة ذلك الدعاء إجابة حتميّة لغير الظالمين منهم، إلاّ أنّه ليس لأبنائه الصالحين الذين استجاب الله دعاءهم لأنفسهم : ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾[19] إلاّ نصيباً قليلاً من إمامة المتّقين ؛ ذلك أنّ سائر ما سأل هذا النبيّ لذرّيّته من قبيل : ﴿ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾[20] يمكن أن يتحقّق و يستجاب لأبنائه الروحيّين كلٌّ حسب استحقاقه و استعداده . و من الممكن استظهار الدليل على استجابة دعاء هذا النبيّ بشأن الخواصّ من أمّته و أبنائه من قوله تعالى : ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[21] ، كما يتسنّى استنباط علامة ذلك من قوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾[22] ؛ لأنّ تولّي الموحّدين العادلين و التبرّي من الملحدين الظالمين كانا من أبرز أهداف النبيّ إبراهيم ( عليه السلام ) وأظهر فِعاله ، وهو ما حقّقه و يحقّقه السالكون لسبيل العقلانيّة الذين سوف يتنعّمون بنعمة الاصطفاء و ينالون موهبة الخُلّة قدر اتّباعهم له و اقتدائهم به ؛ لأنّ المقتدي بمن تنعّم برداء الخُلّة : ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾[23] و أغضى الطرف عن حبوة الاصطفاء : ﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾[24] جدير بمثل هذا الجزاء الأوفى .
خامساً : إنّ باني الكعبة الذي هو مبدأ سلسلة الأنبياء الإبراهيميّين أودع في ذاته النورانيّة التذكرة بالمعاد مع استذكار المبدأ ، و سعى سعياً بليغاً إلى التحلّي بالخلوص و النقاء و تنقية تلك الموهبة الإلهيّة ، و يمكن فهم جميع تلكم الفضائل من الآيتين الشريفتين : ﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾[25] ؛ أي إنّ الله تعالى أعطى إبراهيم و ذرّيته ( عليهم السلام ) هبةً خالصةً غير مشوبة بشيءٍ قطّ ، و هي عبارة عن تذكّر دار الآخرة ؛ لأنّ استذكارهم الآخرة بإخلاص أدّى إلى أن جعلهم الله من المخلَصين عنده . ثمّ إنّ دار الإنسان الأساسيّة في الثقافة القرآنيّة هي الآخرة حيث يستقرّ به النوى في نهاية المطاف ، و هي المعبَّر عنها بـ ﴿ دَارُ القَرارُ ﴾[26] ، بينما الدنيا دار ممرٍّ ومحلّ عبورٍ . إنّ الحجّاج و المعتمرين يلبّون دعوة الشخص الذي كان يستذكر الآخرة بخلوصٍ و صفاءٍ حتّى عُدّ من المخلَصين لله على إثر ذلك الخلوص ؛ و بناءً على ذلك فإنّ الدرس المهمّ المستقى من الحجّ و العمرة التشخيص الصحيح للممرّ من المقرّ و التمييز الصائب للمَعبر من المسكن و المأوى والمستقرّ ؛ لينال السلام الإلهيّ كما ناله إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) : ﴿ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾[27] ، و السلام الإلهيّ مشتمل على السلامة ، و هكذا ثروة هي أساس النجاة في الآخرة : ﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾[28] .
سادساً : الدعوة الإبراهيميّة المتمَّمة بالدعوة المحمّديّة فاقمت من مسؤوليّات الزائرين للبيت العتيق و أثقلت كواهلهم ، ولقد حدّد الباري عزّ و جلّ المنهاج العباديّ ، السياسيّ ، الاجتماعيّ ، الثقافيّ ، لأهل الحجّ و العمرة تارةً بذكر أوصاف الكعبة ، و أخرى ببيان صفات بُناتها ، و ثالثة بحكاية أوصاف الدُّعاة لها . و من المسلّم به أنّ العنصرين المحوريّين المكوِّنين لشؤون الإنسان هما الفكر الصائب و الدافع الصحيح ؛ إذ بأحدهما تُرى الحقيقة و بالآخر يُعمل بالحقّ ، فالناظر إلى الحقيقة بصير و طالب الحقّ مجتهد و قدير . إنّ تعبير القرآن الحكيم عن خليل الرحمن ووُلده بـ : ﴿ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾[29] يمكن أن يكون ناظراً إلى الجهتين العلميّة و العمليّة لهذه الذوات القدسيّة ، مع العلم أنّ هذا الأمر السامي أكّد على أنّ الرفعة و اللياقة المتميّزة هما من نصيب باني ذلك البيت الطاهر . و عليه، فما يمكن أن يُستنبط من استعراض الكرائم النفسيّة لبُناة الكعبة و استقدام الزائرين من كلّ فجٍّ عميقٍ و التأكيد على أنّهم ذوو أيدٍ وأبصارٍ ، هو أنّ زاد الحجيج و متاع المعتمرين في مستهلّ السفر عبارة عن المعرفة الصحيحة و التوجّه الصائب ، و أنّ الهدايا التي يحملها الحاجّ و المعتمر عند عودته هي إكمال هاتين الخصّيصتين وإتمام هذين المبدأين الهامّين ؛ فالأمّة الفاقدة للبصيرة و المجتمع المغلول اليدين غير قادرين على الطواف حول البيت المبنيّ بواسطة بنّاءٍ بصيرٍ ومبسوط اليدين ؛ لأنّ الطواف حول بيتٍ من دون رؤية أثر الباني ولا تلمّس تأثيره، مصداقٌ للقول البليغ و الكلام البديع لمولى الموحّدين و وليّ المتّقين ، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، حيث قال : «ألاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ ، اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ ) إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ ، بَأَحْجَارٍ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ ، وَلاَ تُبْصِرُ وَلاَ تَسْمَعُ ، فَعَجَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً»[30] . إنّ أساس القيام وجوهر الثبات هو العلم التامّ و الاقتدار اللازم ليُدرَك الصراط المستقيم للعقل و العدل ، و من ثمّ السير فيه بخطىً راسخةٍ ؛ لتكون نتيجة زيارة الكعبة أن يصبح الإنسان من « أولي الأيدي والأبصار » .
سابعاً : كان الشرق الأوسط حين ولادة النبيّ إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) مبتلى بالإلحاد و الشرك ؛ ففريق ملحد كان يعتقد أنّ الكون لا مبدأ له و لا نهاية، وأنّ الموت ليس سوى نخور للعظام و نهاية للإنسان وإنهاء لحياته ، و فريق آخر مشرك كان يعبد الأصنام و الأوثان ؛ و في النتيجة كانت تلك المنطقة محرومةً من نعمة التوحيد ، وإن لم يذكر التاريخ شيئاً عن التوحيد آنذاك، لا في الشرق و لا في الغرب الأقصى .
وفي ظلّ العناية الإلهيّة ، بلغ النبيّ إبراهيم ( عليه السلام ) ملكوت نظام الكون و أدرك البصيرة التوحيديّة الصائبة ، فعزم على نشر المعارف التوحيديّة ، و بادر إلى مناظرة آزر بكلّ جرأة و شجاعة، و لم ترعبه أساليبه في التهديد و الوعيد ، فاعتبر ما يقوم به هو و مؤيّدوه إفكاً و اتّباعاً للشيطان[31] ، كما لم يتهاون في مقارعة طغاة عصره الجاهليّ المنحطّ ممّن عبدوا الأوثان أو عُدّوا آلهةً و أرباباً ، و استطاع أن ينتصر في جميع تلك الميادين . ولأجل إنقاذ جماهير الأمّة المحرومة و تنوير الزوايا المظلمة لذلك العصر ، شمّر عن ساعديه ﴿ أُولِي الْأَيْدِي ﴾[32] ، و حمل فأسه بيده و حطّم الأصنام المشؤومة و الأرباب الموهومة في معبد الشرك و الضلال : ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً ﴾[33] ، فأُحضر إلى المحكمة لمحاكمته ، و تمكّن في النهاية من الانتصار للتوحيد بحكمة، و لكن دون أن يُسدل الستار على تلك الفتنة ، فكان عليه مواجهة حكمٍ جائرٍ و أمرٍ مرير : ﴿ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ﴾[34] ، و مع هذا لم يستنجد إبراهيم بفلك و لم يستمدّ العون من ملَك وهو يواجه لهيب النار المحرقة ، و رفض عرض جبرئيل عليه قائلاً : « حَسْبي مِن سُؤالي علمُه بِحالي »[35] ، فما كاد أن يرد النّار حتّى جاء نداء ربّه : ﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾[36] سبباً للبرد من جهة و عاملاً للسلامة من جهة أخرى .
و أخيراً ، تكفّل الأنبياء الإبراهيميّون – و بالتبع العلماء الربّانيّون – بنشر البركات التوحيديّة ، إلى أن قام خاتم النبيّين ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) و تلاه الأئمّة المهديّون من آل طه و ياسين ( عليهم السلام ) بإحياء تلك الحقائق و إكمال نشر تلك المعارف .
ألا أيّها الحجّاج و المعتمرون في حرم الوحي ! و يا أيّها العاكفون و الطائفون في البيت العتيق ! و يا ضيوف مائدة رحمة الحقّ ! إنّ الأمّة الإسلاميّة من جهة و المجتمع الغربيّ من جهة ثانية يعيشان حالة الصحوة المنادية بالإسلام في الشرق الأوسط وبالعدل الاقتصادي في ديار الغرب ؛ و من هنا يتوجب على الجميع ، لا سيّما علماء الدين الأعلام ، إظهار عصارة علوم خليل الرحمن و حبيب الله الصادرة عن العِدلين : القرآن المجيد و أهل بيت العصمة و الطهارة ، و إبراز ما خطّه القلم الذي كان موضع قسم الباري تعالى : ﴿ نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾[37] ؛ ليأدّوا الرسالة الملقاة على عاتقهم ، و يشرحوا أسرار الإحرام المفعمة بالحِكَم و الرافضة للظلم ، و يبلّغوا إلى المنتظرين نداء الحرم النبويّ و البقيع و الأئمّة المعصومين ( عليهم السلام ) و الأولياء التابعين لأهل البيت ( عليهم السلام ) على الوجه الأتمّ و الأكمل ، و يبيّنوا إلى الملأ بركة الوحدة و عظمة البراءة من المشركين و الملحدين و المتحالفين معهم .
و في الختام ، نبتهل إلى الله سبحانه أن يوفّق الجميع و يتقبّل منهم الحجّ و العمرة و يستجيب دعوتهم ، إنّه مجيب الدعاء .
جواد ي آملي
ذو القعدة 1432 هـ
[1]. سورة المائدة : الآية 97 .
[2]. جواهر الكلام ، ج 16 ، ص 181 .
[3]. سورة مريم : الآية 64 .
[4]. سورة فصّلت : الآية 30 .
[5]. سورة الأنفال : الآية 4 .
[6]. سورة البقرة : الآية 124 .
[7]. سورة الحجّ : الآية 26 .
[8]. سورة البقرة : الآية 127 .
[9]. سورة آل عمران : الآية 96 .
[10]. سورة آل عمران : الآية 97 .
[11]. سورة الحجّ : الآية 78 .
[12]. سورة البقرة : الآية 130 .
[13]. الكافي ، ج 1 ، ص 11 .
[14]. سورة الأنعام: الآية 75 .
[15]. سورة الأعراف : الآية 185 .
[16]. سورة يس : الآية 83 .
[17]. سورة الأنعام : الآية 76 .
[18]. الكافي ، ج 2 ، ص 131 و 317 .
[19]. سورة الفرقان : الآية 74 .
[20]. سورة إبراهيم : الآية 37 .
[21]. سورة آل عمران : الآية 68 .
[22]. سورة الممتحنة : الآية 4 .
[23]. سورة النساء : الآية 125 .
[24]. سورة البقرة : الآية 130 .
[25]. سورة ص : الآيتان 46 و 47 .
[26]. سورة غافر : الآية 39 .
[27]. سورة الصافّات : الآيتان 109 و 110 .
[28]. سورة الشعراء : الآية 89 .
[29]. سورة ص : الآية 45 .
[30]. نهج البلاغة ، الخطبة 192 .
[31]. انظر : سورة الصافّات : الآية 86 .
[32]. سورة ص : الآية 45 .
[33]. سورة الأنبياء : الآية 58 .
[34]. سورة الأنبياء : الآية 68 .
[35]. بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 156 .
[36]. سورة الأنبياء : الآية 69 .
[37]. سورة القلم : الآية 1.